في مغطس الكلام

26 سبتمبر 2018
عاصم الباشا/ سورية
+ الخط -

تحت ظلِّ وإيحاءِ لقب عصفور الدوري، جرّبتُ الاستماع إلى أغاني الفرنسية إيديث بياف (1910- 1963) ومشاهدتها على المسرح ذات يوم، وأنا أجهل الفرنسية إلا ما وعته الذاكرة متناثراً من هذا النص أو ذاك. لم تكن اللغة هي ما يتردد ويرنّ في الذهن، بل كلمة واحدة هي هذا اللقب العجيب الذي أطلقه عليها صاحب أول ملهى باريسي التقطها من شوارع باريس لتغني فيه قبل أن تحيد كما يحيد الضوء وتنطلق في أجواء المسارح وقاعات السينما.

"بياف"، هذه الكلمة الفرنسية هي اللقب المقصود بكلمة العصفور أو العصفورة، وسأعرف خلال تلك التجربة مع أصوات الآلات الموسيقية وصوت المغنية وأضواء المسرح، أن هذا اللقب لم يكن أو لا ينبغي أن يكون، إلا واحداً من عدة ألقاب ممكنة. كان الصوتُ، وكذلك المشهد ورنين الكلمات، لا الكلمات ذاتها، ينفتح على ألقاب أخرى، ومن عالم الطيور أيضاً.

في هذا الاتجاه يمكن أن يتواصل تخيّلُ أو تلقطُ ما يوحي به الصوتُ وممكناته وهي تتماثل مع ممكنات عددٍ من الآلات الموسيقية، إلا أن من الأفضل الحديث عن الاكتشاف الأكثر أهمية؛ عن الكيفية التي يتحوّل فيها المستمعُ أو المشاهد بذاته إلى حواسّ متعددة لا تتبادل الأدوار بل تعزف معاً، فيكون عيناً تبصر وأذناً تسمع وفكراً يتحرر ويتخيّل، في آن واحد معاً، لأنه يشاهد "نصاً" مكتوباً، إذا شئنا التشبيه، من عدة وجوه وبعدة لغاتٍ، ليس "الكلام" إلا واحداً منها، وربما أقلها أهمية حين الاستماع إلى تغريد البلابل أو زقزقة العصافير، أو حتى صياح البط البرّي وهو يأتي من بعيد مخترقاً الهواء فوق البحر المحيط، آتياً من ظلمة أو خيط ضياء.

وتذكرت وأنا في خضم هذه التموجات المتنوعة أن الافتقار إلى فهم "الكلام" الذي يقال لا يعني أن عليّ إغلاق وسيلة التواصل، سواء كانت شريط تسجيل أو شاشة حاسوب أو صفحة جريدة، أو الانتقال إلى وسيلة أخرى يكون كلامها مفهوماً بالنسبة لي كعربي.

أغاني "إيديث بياف" ومشهدها على المسرح، وليكن اسمها الآن "عصفور الدوري" كما أحب صاحب الملهى ذاك، لم تكن ولا كان المسرح، مجرّد نصوص بالفرنسية لا ألتقط منها إلا قطرات بسيطة، بل كان كل هذا صوراً من حياة هذه المغنية تنطق بكلمات ليست كالكلمات إلا أنني أفهمها تماماً، تتردد بين لازمة "لا.. لست آسفة على شيء" ولازمة "الحياة يمكن أن تكون وردية إذا..". كان المشهد موسيقى لاتحتاج إلى ترجمان لأنها لغة قائمة بذاتها.

هي "لغة اللغات" أو هي "معرفة المعرفة" بتعبير الفلسفة، أو هي "نظام الأنظمة" بلغة الخطاب ودراسته. مثل هذه اللغة لا يجهلها أحد سواء كان عارفاً أو جاهلا بأبجدية اللغات. ثم هي أسلوب، وليكن في ترتيب اللقطات كما ترتب لقطات شريط سينمائي، عندئذ يستطيع أي إنسان أمام مثل هذا الترتيب أو "المونتاج"، مع قليل من الانتباه، ومهما أوتي من علم قليل أو كثير فهم ما يقول.

وأخيراً، هذا المشهد محفز ومحرض للذاكرة؛ ما عرفتْ وما شاهدت وما قرأت عن الحياة في أزمان أخرى، في مناطق ومدن وأرياف مألوفة سماعاً، وها هي تتجسد بصرياً الآن.

كل هذا يحتاج إلى انتباه بالطبع، وخروج على عادة في عدة وسائط إعلامية؛ صحيفة أو صفحة في كتاب أو شاشة تلفاز ..إلخ نظل نسبح في مغطسها حتى النهاية؛ عادة تلقي العالم عبر وسيط وحيد هو "الكلام". يذكر هذا بمقولة شهيرة ترسخها الوسائط العربية على وجه الخصوص، تبرهن عليها وتستغلها، مقولة "أن العرب ظاهرة صوتية"، أي هم ليسوا ظاهرة كلامية بلا معنى، أو دالة بلا مدلول، فقط، بل أسوأ من ذلك بكثير؛ إنهم أصوات بلهاء أو مجرد ثرثرة.

نحن نولد في مغطس الكلام، ويولد "العالم" معنا في المغطس نفسه. نبدأ برؤية كلّ الأشياء والإحساس بها عبر الكلام، فتتعطل بقية الحواس في عصر لم يعد الكلام فيه إلا وسيطاً بين وسائط. وأمام صفحات صحيفته المفضلة، أو شاشة تلفازه، أو التماع وجه هاتفه المتطور، نافذته العصرية على ما حوله قرب أو بعد، لا يشعر الإنسان أنه بحاجة إلى أي حاسة أخرى، حتى وإن كانت حاسة فكر أو تأمل أو مراجعة، ما دام كل ما لديه "يقول" ولا "يقول".

الكثيرون يشعرون بالاغتراب أمام، أو في قبضة وسائط أو مغاطس كهذه، ويزداد هذا الشعور حدة حين يتحولون إلى نحل عاطل من العسل، أي إلى كائنات عاطلة من ممارسة خواصها الإنسانية الأساسية.

صحيح أن "النحل" العربي يظل قادراً على الطيران والرفيف بل والرقص أحياناً، بوصف هذا الأخير وسيلة التواصل بين هذا القفير أو ذاك كما يقول مختصون في وصف أيام هذه الكائنات، بل ويستطيع إصدار صدى أحياناً، إلا أنه يظل عاطلا من العسل، عن الرؤيا والسماع وتشغيل حاسة الذاكرة، لأن لا شيء يبصره، ولا حواس له تلتقط شيئاً لا يكون "كلاماً"، ولا مسافة توقظ ذاكرة ولا أفقاً سوى هذا المغطس.

المساهمون