تظهر الأرقام المعلنة في كل بنوك مصر انخفاض سعر الدولار مقابل الجنيه بما يقرب من عشرة بالمائة منذ بداية العام الحالي، وحتى هذه اللحظة.
وعلى الرغم من إصرار المسؤولين بالدولة على "النجاح المذهل" لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، و"النتائج المبهرة" لتطبيقه، وإشاراتهم إلى العديد من "المؤشرات الاقتصادية الرائعة"، غير الملموسة من المواطن المصري، ما زال سعر الدولار مقابل الجنيه يمثل لغزاً كبيراً لمجتمع الأعمال، داخل وخارج مصر.
وعلى الرغم من إصرار المسؤولين بالدولة على "النجاح المذهل" لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، و"النتائج المبهرة" لتطبيقه، وإشاراتهم إلى العديد من "المؤشرات الاقتصادية الرائعة"، غير الملموسة من المواطن المصري، ما زال سعر الدولار مقابل الجنيه يمثل لغزاً كبيراً لمجتمع الأعمال، داخل وخارج مصر.
الأصل في تحديد أسعار العملات في دول العالم هو أنها تعامل مثل أي سلعة أخرى، يرتفع سعرها إذا زاد الطلب عليها عن المعروض منها، وينخفض سعرها في حالة زيادة المعروض عن الطلب عليها.
ويسري هذا الأمر بصورة كاملة على عملات الدول التي تتبع نظام سعر صرف مرن، بينما يتعثر في الدول التي تتدخل في توجيه سعر صرف عملتها في اتجاه محدد.
اقــرأ أيضاً
ورغم أننا اعتدنا أن نرى تدخل الحكومات والبنوك المركزية في توجيه أسعار صرف العملة باتجاه تعزيز قيمة العملة المحلية مقابل الدولار، فقد كانت هناك حالات تدخلت فيها الدول لإضعاف عملتها، على عكس تأثير قوى السوق.
ومن أبرز أمثلة تلك الحالات ما يقوم به بنك الشعب الصيني (البنك المركزي الصيني) في الشهور الأخيرة، وما اعتاد القيام به، وما قام به نظيره الياباني، قبل سنوات، من أجل زيادة صادراتهما، بالإضافة إلى حالة العديد من دول الخليج، في سنوات ارتفاع أسعار النفط، وتحقيق فوائض ضخمة في موازين مدفوعاتها، لمنع عملاتها من الارتفاع مقابل الدولار، كونها اختارت سياسية سعر الصرف الثابت.
ومع تعويم الجنيه المصري، في نوفمبر / تشرين الثاني 2016، أعلنت الحكومة والبنك المركزي المصريان نيتهما عدم التدخل في تحديد سعر الجنيه، وتركه لقوى العرض والطلب، وهو ما يصر المسؤولون هناك على سريانه حتى هذه اللحظة. ويتحدد الطلب والعرض على عملات الدول، ومن ضمنها بالطبع الجنيه المصري، بما تحققه الدولة من فائض أو عجز في ميزان المعاملات الجارية الخاص بها. ولو حقق الميزان فائضاً في أي عام، باستبعاد ما تحصل عليه الدولة من قروض، فإن ذلك يعني زيادة الطلب على عملتها، مقارنةً بالمعروض منها، الأمر الذي يستتبعه ارتفاع في قيمتها، والعكس صحيح في حالة تحقيق عجز.
اقــرأ أيضاً
وقبل أسبوعين، أظهرت البيانات الرسمية الصادرة عن البنك المركزي المصري، تحقيق ميزان المعاملات الجارية للعام المالي المنتهي بنهاية يونيو / حزيران الماضي عجزاً يتجاوز ثمانية مليارات من الدولارات، وهو نتيجة طبيعية لزيادة مشتريات المصريين من سلع وخدمات الخارج، مقارنةً بما يبيعونه لهم (بلغ عجز الميزان التجاري هذا العام أكثر من 38 مليار دولار).
ورغم محاولات إخفاء هذا العجز في كثير من الأحيان، عن طريق إدخال القروض التي نحصل عليها من الخارج في الحسبان، والتعامل مع الأمر على أن لدينا فائضاً في ميزان المدفوعات، إلا أن الحقيقة الواضحة أننا نعاني من عجز دائم في معاملاتنا مع الخارج (باستبعاد القروض، واستبعادها واجب)، استمر خلال العقود الأربعة الأخيرة، باستثناء سنوات قليلة، لا تتجاوز أصبع اليد الواحدة.
واتبع البنك المركزي المصري، على الأقل خلال العام الأخير، سياسة يطلق عليها التعويم المدار، تسمح لسعر العملة المحلية بالتحرك في نطاق محدد، لا يُسمح للبنوك بتجاوزه. وبناء على تلك السياسة، يحدد البنك المركزي، أو أذرعه من البنوك المصرية، السعر الذي يتم التعامل به في بداية تعاملات كل يوم، والنطاق المسموح التحرك فيه، فتتحرك البنوك داخل ذلك النطاق، ولا تخرج عنه مهما حدث.
واستطاع البنك المركزي السيطرة على السعر داخل النطاق المقبول، وتقوية الجنيه في بعض الأحيان، عن طريقة الاستجابة إلى أغلب طلبات شراء العملة الأجنبية، للعمليات التجارية، خلال الفترة الماضية، الأمر الذي منع ظهور سوق سوداء تتلاعب بالسعر في مقابلة طلبات الشراء غير المرحب بها في البنوك.
اقــرأ أيضاً
ولم تكن استجابة البنوك لطلبات العملة ناتجة عن توفر كميات كبيرة من الدولار، نتيجة لوجود فائض في ميزان المعاملات الجارية، وإنما لوجود تدفق مستمر من العملة الأجنبية، ناتج عن زيادة اقتراض مصر من العالم الخارجي، وتجديد الكثير مما يستحق سداده مما حصلت عليه مصر من قروض سابقة، بصورة لا ينتج عنها اضطرابات في سعر العملة، ولا ينخفض معها احتياطي النقد الأجنبي، وإنما تظهر أعراضها الجانبية في صورة تضخم الديون الخارجية.
لا يمكن لأي دولة في العالم، تعاني من عجز ميزان معاملاتها الجارية، أن تتوقع ارتفاع قيمة عملتها، أو حتى ثباتها.
ولو نجحت لبعض الوقت في منع انخفاض قيمتها، ناهيك عن الزيادة، فإن ذلك الإجراء المصطنع لن تكون له نتيجة إلا مزيد من الضعف عند تحييد العوامل "غير الحقيقية" المساندة، وهي في الحالة المصرية الاقتراض الخارجي.
وللتأكيد على ذلك، يمكن تخيل الحالة التي ستنخفض فيها القروض الخارجية الجديدة، شاملةً ما يتم تجديده بدلاً من السداد، خلال أي عام، عن العجز في ميزان المعاملات الجارية.
اقــرأ أيضاً
النتيجة المباشرة لتلك الحالة ستكون إما رفض بعض طلبات الشراء الخاصة بالتعاملات التجارية للشركات، وهو ما يتبعه عودة السوق السوداء للتألق، أو السحب من احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي، وفي كلتا الحالتين، لن يمكن الحفاظ على استقرار السعر لفترة طويلة، إلا بالتوجه من جديد نحو مزيد من الاقتراض الخارجي، كمن يستجير من الرمضاء بالنار!
تقوية الجنيه المصطنعة لا تعني إلا مزيداً من الضغوط على الأجيال القادمة، ولن تكون قوة الجنيه مقبولة إلا لو كانت نتيجة لفائض في ميزان المعاملات الجارية، دون أخذ ما يتم اقتراضه في الاعتبار. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال زيادة ما نبيعه للعالم الخارجي من سلع وخدمات عما نشتريه، وهو ما يتطلب إصلاحات هيكلية "حقيقية" في العديد من المجالات التي تشير الدلائل إلى أنها ليست من أولويات النظام الحالي.
ويسري هذا الأمر بصورة كاملة على عملات الدول التي تتبع نظام سعر صرف مرن، بينما يتعثر في الدول التي تتدخل في توجيه سعر صرف عملتها في اتجاه محدد.
ورغم أننا اعتدنا أن نرى تدخل الحكومات والبنوك المركزية في توجيه أسعار صرف العملة باتجاه تعزيز قيمة العملة المحلية مقابل الدولار، فقد كانت هناك حالات تدخلت فيها الدول لإضعاف عملتها، على عكس تأثير قوى السوق.
ومن أبرز أمثلة تلك الحالات ما يقوم به بنك الشعب الصيني (البنك المركزي الصيني) في الشهور الأخيرة، وما اعتاد القيام به، وما قام به نظيره الياباني، قبل سنوات، من أجل زيادة صادراتهما، بالإضافة إلى حالة العديد من دول الخليج، في سنوات ارتفاع أسعار النفط، وتحقيق فوائض ضخمة في موازين مدفوعاتها، لمنع عملاتها من الارتفاع مقابل الدولار، كونها اختارت سياسية سعر الصرف الثابت.
ومع تعويم الجنيه المصري، في نوفمبر / تشرين الثاني 2016، أعلنت الحكومة والبنك المركزي المصريان نيتهما عدم التدخل في تحديد سعر الجنيه، وتركه لقوى العرض والطلب، وهو ما يصر المسؤولون هناك على سريانه حتى هذه اللحظة. ويتحدد الطلب والعرض على عملات الدول، ومن ضمنها بالطبع الجنيه المصري، بما تحققه الدولة من فائض أو عجز في ميزان المعاملات الجارية الخاص بها. ولو حقق الميزان فائضاً في أي عام، باستبعاد ما تحصل عليه الدولة من قروض، فإن ذلك يعني زيادة الطلب على عملتها، مقارنةً بالمعروض منها، الأمر الذي يستتبعه ارتفاع في قيمتها، والعكس صحيح في حالة تحقيق عجز.
وقبل أسبوعين، أظهرت البيانات الرسمية الصادرة عن البنك المركزي المصري، تحقيق ميزان المعاملات الجارية للعام المالي المنتهي بنهاية يونيو / حزيران الماضي عجزاً يتجاوز ثمانية مليارات من الدولارات، وهو نتيجة طبيعية لزيادة مشتريات المصريين من سلع وخدمات الخارج، مقارنةً بما يبيعونه لهم (بلغ عجز الميزان التجاري هذا العام أكثر من 38 مليار دولار).
ورغم محاولات إخفاء هذا العجز في كثير من الأحيان، عن طريق إدخال القروض التي نحصل عليها من الخارج في الحسبان، والتعامل مع الأمر على أن لدينا فائضاً في ميزان المدفوعات، إلا أن الحقيقة الواضحة أننا نعاني من عجز دائم في معاملاتنا مع الخارج (باستبعاد القروض، واستبعادها واجب)، استمر خلال العقود الأربعة الأخيرة، باستثناء سنوات قليلة، لا تتجاوز أصبع اليد الواحدة.
واتبع البنك المركزي المصري، على الأقل خلال العام الأخير، سياسة يطلق عليها التعويم المدار، تسمح لسعر العملة المحلية بالتحرك في نطاق محدد، لا يُسمح للبنوك بتجاوزه. وبناء على تلك السياسة، يحدد البنك المركزي، أو أذرعه من البنوك المصرية، السعر الذي يتم التعامل به في بداية تعاملات كل يوم، والنطاق المسموح التحرك فيه، فتتحرك البنوك داخل ذلك النطاق، ولا تخرج عنه مهما حدث.
واستطاع البنك المركزي السيطرة على السعر داخل النطاق المقبول، وتقوية الجنيه في بعض الأحيان، عن طريقة الاستجابة إلى أغلب طلبات شراء العملة الأجنبية، للعمليات التجارية، خلال الفترة الماضية، الأمر الذي منع ظهور سوق سوداء تتلاعب بالسعر في مقابلة طلبات الشراء غير المرحب بها في البنوك.
ولم تكن استجابة البنوك لطلبات العملة ناتجة عن توفر كميات كبيرة من الدولار، نتيجة لوجود فائض في ميزان المعاملات الجارية، وإنما لوجود تدفق مستمر من العملة الأجنبية، ناتج عن زيادة اقتراض مصر من العالم الخارجي، وتجديد الكثير مما يستحق سداده مما حصلت عليه مصر من قروض سابقة، بصورة لا ينتج عنها اضطرابات في سعر العملة، ولا ينخفض معها احتياطي النقد الأجنبي، وإنما تظهر أعراضها الجانبية في صورة تضخم الديون الخارجية.
لا يمكن لأي دولة في العالم، تعاني من عجز ميزان معاملاتها الجارية، أن تتوقع ارتفاع قيمة عملتها، أو حتى ثباتها.
ولو نجحت لبعض الوقت في منع انخفاض قيمتها، ناهيك عن الزيادة، فإن ذلك الإجراء المصطنع لن تكون له نتيجة إلا مزيد من الضعف عند تحييد العوامل "غير الحقيقية" المساندة، وهي في الحالة المصرية الاقتراض الخارجي.
وللتأكيد على ذلك، يمكن تخيل الحالة التي ستنخفض فيها القروض الخارجية الجديدة، شاملةً ما يتم تجديده بدلاً من السداد، خلال أي عام، عن العجز في ميزان المعاملات الجارية.
النتيجة المباشرة لتلك الحالة ستكون إما رفض بعض طلبات الشراء الخاصة بالتعاملات التجارية للشركات، وهو ما يتبعه عودة السوق السوداء للتألق، أو السحب من احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي، وفي كلتا الحالتين، لن يمكن الحفاظ على استقرار السعر لفترة طويلة، إلا بالتوجه من جديد نحو مزيد من الاقتراض الخارجي، كمن يستجير من الرمضاء بالنار!
تقوية الجنيه المصطنعة لا تعني إلا مزيداً من الضغوط على الأجيال القادمة، ولن تكون قوة الجنيه مقبولة إلا لو كانت نتيجة لفائض في ميزان المعاملات الجارية، دون أخذ ما يتم اقتراضه في الاعتبار. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال زيادة ما نبيعه للعالم الخارجي من سلع وخدمات عما نشتريه، وهو ما يتطلب إصلاحات هيكلية "حقيقية" في العديد من المجالات التي تشير الدلائل إلى أنها ليست من أولويات النظام الحالي.