في مديح 27 ديسمبر

14 يوليو 2015
لوحة للفنان بهرام حاجو
+ الخط -
سأكشف سرّ هذا المقال من مستهلِّه: دُهِشتُ عندما لاحظتُ ذات يوم أن 27 ديسمبر هو، في الآن نفسه، عيد ميلاد أبي العلاء وذكرى وفاة المتنبي: ففي 27 ديسمبر عام 965، قُتِل المتنبي وسيفه بيدِه، وهو يتعرّضُ مع قافلته لهجومٍ غادر. وقبل غروب شمس 27 ديسمبر 973، أي بعد ثمانية أعوام بالوفاء والتمام، وُلِدَ أبو العلاء. 

عفواً، لأتريّثَ وأبدأ المقال من البداية! 
عندما يبدأ جسدُ الصبيّ تمتماته وتلعثمَه، تتفجّرُ حاجاتُه للحبِّ واللغةِ في الوقت نفسه. ثمّ لا حبَّ من دون لغةٍ طبعاً. هي الوسيلة والملاذ والوطن. هي وعاءُ الوعي واللاوعي معاً. وحينها يتّجهُ الصبيُّ لِقراءة كُتّابِ لغتهِ الأم، فما اللغة من دون أدبائها وفلاسفتها؟ وقبل قراءة معاصريه، يتَّجهُ الصبيُّ أوّلاً إلى أولئك المهندسين الأدباء الذين صاغوا مداميك وطن اللغة الأم، وفتحوا أهمّ أبوابها التعبيرية؛ إن كان إنجليزياً فسيجد في انتظاره شكسبير، وإن كان ألمانياً فسيكون موعده الأوّل: جوته. دانتي إن كان إيطالياً، وبوشكين إن كان روسياً. لعلّ العرض سيكون أكبر قليلاً لو كان فرنسيّاً: بين موليير من ناحية، رامبو وبودلير من ناحية أخرى، هوجو أو غيره لبعضٍ آخر. وإن كان عربياً: بعد عبورٍ ملهِمٍ وصعب لبعض نصوص شعراء عصر الجاهلية، سيتوقف في أغلب الظن عند أهمّ جذرين تاريخيين: المتنبي والمعرّي. من يدري، قد يرتبط بهما بعلاقة ميتافيزيقية عميقة. قد يسكناه يوميّاً ويكونا من أقرب الناس إليه. من يدري؟ 
وإذا كان صاحبُنا مهووساً بتواريخ التقويم السنوي، وبالواحات الزمنية في أفيائه، وبضرورة إذكاءِ الذاكرة الجمعيّة الحيّة، وبمفهوم هايديجر: "تاريخية" الإنسان، فستنزل في حياته ما تشبِه الصاعقة إذا اكتشف يوماً أن هذين الشاعرين اللذين يباعد بينهما كلّ شيء، ويوحدهما كل شيء أيضاً، عكسا علاقتهما المدهشة هذه في رمزٍ أجلى تنافرَها ووحدتَها المذهلين: 27 ديسمبر، ذكرى موتٍ وميلاد. 
فمن منظور رياضيٍّ بحت: أن تجدَ، بين مجموعةٍ من 24 شخصاً أو أكثر، اثنين لهما عيد الميلاد نفسه، فذلك مضمونٌ غالباً احتماله أكثر من 50%، ويمكن برهنتُه رياضيّاً، وتستطيعُ أن تتحوّل مليونيراً لو راهنتَ باستمرار عن وجود اثنين على الأقلّ، لهما عيد الميلاد نفسه في أيّة مجموعةٍ كتلك، تلتقي مصادفة في حفلاتٍ مثلًا. لكن أن تكون مجموعتك من اثنين فقط وليس 24، وتتكوّن ممن تعشقهما تحديداً، ويجمعهما التاريخ نفسُه مع ذلك، فتلك مصادفة حميدة ممتعة. 
كثيرٌ من عشّاق العربية ينحنون أمام المتنبي لأنه أثرى لغتنا بقصائد خالدة؛ "على قدرِ أهل العزم"، "كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا"، "واحرّ قلباهُ ممن قلبهُ شبِمُ". ويكتفون بذلك غالبًا، متناسين أن حياة المتنبي روايةٌ مدهشة، نحتاج لاستحضارها لحظة لحظة، ولتأمّل تفاصيلها، ليس فقط لأنه قاد لغتنا إلى قممٍ رفيعة، بل لِملكاتهِ الإنسانية ومغامراته ونبل مشروع حياته. 

اقرأ أيضاً: لويس ميغيل كانيادا: للثقافة العربية الكثير لتقوله

مثل ابن المعرّة، تفجّرت مواهب أبي الطيب في صباه في الكوفة، وتميّزَ بذاكرة وقّادة وذائقة فنيّة عالية. وبعكسه، كان من عائلةٍ بسيطةٍ فقيرة. ومنذ صباه لصق به لقب"المتنبي"، لتعاليه وفخره بنفسه؛ "أنا تِربُ النّدى وربُّ القوافي" الذي لا يختلف عن تعالي أبي العلاء في مراهقته؛ "وإني وإن كنتُ الأخير زمانه/ لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل". أو لقولِه: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي" الذي عدّها من ورث مملكة لغة الضاد بعده، أي الشاعر الضرير أبو العلاء، غمزة عاشقة موجّهة له شخصيّاً من خارج الزمن. قيل أيضاً إن لقب "المتنبي" جاء لأنه كتبَ حينها آياتٍ تحاكي القرآن. الغريب أن لهذا اللقب في حالته فقط، بخلاف آخرين كمسيلمة الكذّاب، رنيناً نبيلاً يتداوله الناس بكثيرٍ من المدح والإعجاب. 
وبعكس "رهين المحبسين"، الذي تصومعَ خمسين عاماً في محبسه الثالث: بيتِه في معرّة النعمان، قبل أن "يدير ظهرَهُ للكثيب" كما يقول بكلماتهِ الساحرة، فإن حياة أبي الطيب رحلة دائمة لا تستقرّ، بعض محطاتها الكبرى: السجن، حلب، فسطاط، العراق. إذ جاب الشاعر الصحارى والمدن بحثاً في الحقيقة عن موادٍ خام لمشروعه الأدبي، وعن هرمونات ووقود ترفدها تفاعلات رحلاته وعلاقاتُها الثريّة. 
وبعكس "رهين المحبسين" الذي لم يمارس الحرب إلا في الشطرنج فقط وكان من أكبر أبطاله، كان المتنبي فارساً شجاعاً خاض الحروب بشغفٍ مدهش: "وما سكني سوى قتل الأعادي"، أو "فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ/ تكسّرتِ النصالُ على النصالِ". يبدو لمن يقرأُ شعرَه الحربي كما لو أنه مارس عشق الحرب من أجل رفد مشروعهِ الأدبيّ أساسًا. أليس في خراب الحروب جمالية لا حدّ لها، نهل منها أعظم الأدباء مثل هوميروس؟ وما الإلياذة إن لم تكن نصالاً تتكسّرُ على نصال؟ 
يلوم الكثيرون المتنبي كونه قضّى حياته يمدح الأمراء، بخلاف المعري الذي لم يمدح يوماً حاكماً. لعلّ ثمّة شبه عميق ما مع ذلك: يعدّ أبو العلاء في الجوهر أن الأديب أرفع مقاماً من الحاكم. ولعلّ في مدح أبي الطيّب ما يتّفق مع علوِ الأديب على الحاكم: يحدّد الأوّل قيمة الثاني في بورصة التقدير المجتمعي. يستطيع مدح الأوّل أن ينقلب هجاءً في القصيدة نفسها كما حصل مع كافور، أو أن يرفع ذروة منحاه البياني ويخفضها بشكلٍ يتناسب مع تغيّرِ تقدير الشاعر لممدوحه، أو أن يتحوّل إلى لوم حميم قارس لا يخلو من السخرية، كما فعل مع سيف الدولة "الذي استوت عندهُ الأنوارُ والظُّلَمُ". فوحدُهُ الأديب، في الأخير، من يترك عن الحاكم ما يتبقّى في ذاكرة الأجيال. يرفعه أو يسقطه، كيفما يقرِّر. 
لن أتحدّث عن أبي العلاء الذي كان حاضراً في كتابي ما قبل الأخير "لا إمام سوى العقل"، حسب تعبيره: عنوان مشروعه الفكري، مشروع مستقبلنا العربي إن كان لنا مستقبل. له وعنه كتبت روايتي "تقرير الهدهد" التي أنهيتها في 27 ديسمبر 2010 يوم عيد ميلاده، الذي لم أتوقّف حقّاً عن إضاءة شمعةٍ فيه كلّ سنة، وأبشّر به في كتاباتي منذ قبل أسبوعين من موعدهِ غالباً، وأحياناً في 27 يونيو، أي قبل نصف عامٍ منه. 
بل أستحضر الأميركي هنري ميلر الذي ألّف كتابه عن رامبو، في أكتوبر 1954، بمناسبة مرور قرن على وفاته: "ماذا نقول عن مراهقٍ زلزل العالم؟ أليس ثمّة إعجاز في مجيئه إلى الأرض؟"، ثمّ أضاف هذه العبارات التي تصلح بشكلٍ خاص لأبي العلاء: "فسّروا عطاءهُ كيف تشاؤون، اشرحوه بطريقتكم، لكن لا تأخذوه بخفّة. المستقبل ينتمي له، إن كان ثمّة مستقبل".


المساهمون