في مديح اللقالق

08 أكتوبر 2015
اللقالق طيوراً خجولة (Getty)
+ الخط -
كنا صغاراً وكانت الحارة عالمنا الكبير، وبيوت الجيران التي بعد الباب السابع كانت مدناً بعيدة حدودها الشوارع المجاورة التي لا تنفك أمهاتنا يحذرننا من تجاوزها، لدرجة أن أختي التي بالكاد تكبرني عامين من الدفء لا تتوانى في نقل الوشاية لأمي حين أطأ الشارع العام الذي
يبعد عن بيتنا 300 متر تقريباً، كنا نقطع الشارع العام لنصل بعده إلى نهر "الجغجغ" ونقضي وقتنا في نصب الكمائن للعصافير والضفادع والسلاحف، ونحفر تراب ضفتيه بحثاً عن جذور السوس، ونغني كلما رأينا طائر اللقلق يحوم في السماء: "حجي لقلق سرّاق الصابونة".


لم ندرك يوماً لماذا ننعت هذا الطائر الغريب بهذه الصفة تحديداً؟ غير أننا كنا نغني ونصفق ونضحك كثيراً، وكانت اللقالق طيوراً خجولة تبني أعشاشها في النقاط العالية المهملة والنائية، طبعاً كلمة النائية دخلت قاموسنا اللغوي حين كبرنا، وصارت اللفظة تلك وصمة عار تلحق بنا نحن أبناء الشمال الشرقي في أقاصي الدولة، حيث يسموننا أبناء المناطق النائية، وللإمعان في تجريمنا أحدثت لنا الحكومات الموقرة مفاضلة دراسية للجامعات تحمل اسمنا وصِفة تخلفنا عن أبناء المناطق المتحضرة، كنا لقالق البلد ذي الحضارة المتجذرة منذ أول الخلق، نحمل خجلنا مثل خيمة يتخيل المواطنون من الدرجة الأولى أننا نعيش فيها، ويتغامزون فيما بينهم حول تركيبتنا الفكرية حين نلج مجتمعاتهم.

نحن لقالق الأرض نقف على ساق واحدة لنثبت أننا الأشداء الذين نخفي حزننا حتى عَرفنا بأن اللقلق يحمل اسماً آخر هو "مالك الحزين"، نحن الذين نشأنا على إيقاع الأغاني الحزينة، ويحلو لنا أن نغني "مسافرين" و"مجروحين" و"مو حزن لكن حزين"، نجيد فن الترحال فهو منتجنا البدوي حتى حين صرنا ريفيين ظل الترحال ديدننا الذي نجيد أداءه، نرحل طلباً للعلم ونرحل طلباً للعمل ونرحل لأداء فريضة خدمة العلم ونرحل الرحيل الأخير باتجاه القيامة.

لم نصنع شعاراً واحداً نختص به ولو كان لي ذلك لرفعت شعار: "يا لقالق العالم اتحدوا" فالحزن الذي بات خيمة كبيرة تجمّع تحتها كلُّ السوريين جديرٌ بأن يكون له لقالق تجيد حمله.
أنظر إلى البلاد الآن وأدرك بأن العالم أصغر من حارة الطفولة، لا أم نشكوا لها قطع أخوتنا لحدود البلاد، وثيابنا التي كنا نخشى تعنيف أمهاتنا لأننا تمرّغنا بالتراب صرنا نتباهى بها وصار الناس يضعون صورنا ونحن مكللين بالوحل شواهد على قسوة الأم الكبيرة، والأسماك التي لم نتعد عليها في النهر الصغير صارت تنصب لنا الشباك على شواطئ الحلم، يا حزنُ هل يروقك دمع الكبار وهم يحاولون عبورك ليضمنوا سعادة منشودة باجتيازك؟ قل لي وعلى الملأ: لماذا تتفنن في تمريغ قلوبهم بما أوتيت من جبروت الوحل والقهر والمذلة؟ ويا "مالك الحزين" ما لكَ لا تجيد الفرح ولا تجتازه إلا إليه؟

أفكر الآن لو أننا تصالحنا منذ الطفولة مع اللقالق ولم نتهمها بسرقة الصابون هل كانت ستترك أعشاشها النائية وتجيد الفرح والوقوف على ساقين من حب وأمل بدل ساق الخوف الوحيدة؟ كنا أبناء الريف لقالق سورية، فيما كان السوريون لقالق العالم، وها نحن ذا نجمع ذكرياتنا في صرة صغيرة ونهاجر الوطن متأملين أن يعود نيسان دون أن يكون النسيان قد نال منا، ونحلم أن نعود لأعشاشنا التي هتكت قشّها الريح المجنونة التي يسمونها حرباً.

ويحلو لي أن أقتبس مردداً: أعود أو لا أعود ليست هذه هي القضية، القضية الحقيقية هي: هل حين أعود سأستطيع تعليم الأطفال أن العالم صغير جداً، فلا خوف من قطع الشوارع والعيش أينما استطعنا أن نصنع الفرح وأن نغني الأغاني الجميلة: "يا حجي لقلق افرح قليلاً وانس المواجع"، وبلهجتنا التي كانت مجالاً للتندر: "يا حجي لكلك جيبلنا مشبّك".

(سورية)
المساهمون