في فلسفة البلوك

05 اغسطس 2018
+ الخط -

إذا كانت الحكمة تعني أن يخاف الإنسان من إبداء رأيه لأنه سيجر عليه المتاعب، فالحكمة إذن ليست من فضائلي، هذا إن سلمنا بوجود تعريف موحد لكافة الفضائل التي يمنح البشر تقديراً خاصاً لمن يتحلون بها. ما أرى أن الآخرين يفضلون وصفه بأنه (حكمة)، أجد من الأنسب توصيفه بالتعقل أو الحذر، لأن الحكمة كما أفهم ينبغي ألا ترتبط بتبصر عواقب إبداء الرأي أو اتخاذ الموقف، بل ترتبط بضرورة الانحياز للموقف الذي تراه عادلاً أو صائباً، أياً كانت العواقب، وربما لأن تحقق الحكمة بهذا الشكل أمر شديد الصعوبة، فقد قال الله تعالى عنها: (يؤتي الحكمة من يشاء)، لكنه لم يقل كيف يؤتيها من يشاء، ولعلنا لا ننسى كم من البشر تم إسباغ وصف (الحكماء) عليهم، لتكشف التجارب أنهم كانوا مجرد منافقين يتلاعبون بالألفاظ أو يستخدمون الصمت للتدليس والتغطية على مواقفهم المنحطة. 

ألحّت عليّ هذه الفكرة خلال نقاش ساخن مع صديق عن الحكمة التي يجب توخيها أثناء استخدام خيار (البلوك) أو الحذف في حسابات وسائل الاتصال الاجتماعي، وكان يستعرض تجربتي الثرية في ذلك المجال، والتي كانت تُقابل من بعض الأصدقاء الافتراضيين باتهامي بعدم تقبل اختلافي معهم في الرأي، بشكل يرونه تناقضاً مع إيماني بالحرية، وهو تصور أراه قاصراً في فهم الحرية، التي لا تعني أبداً تحمل الغلظة والغباوة والرزالات الثقيلة على القلب، بالطبع سيختلف تعريف ذلك طبقاً لطريقة كل منا في النظر للأمور، فضلاً عن كون (البلوك) في حد ذاته رأياً وممارسة صائبة للحرية، تعني أنك ترغب في إيصال رسالة لهذا الشخص أنك لا تحب طريقته في التعبير عن رأيه، لكن رأيه لن يختفي من الوجود لمجرد أنك نأيت بنفسك عنه، فخيار الحظر ليس كما يتصوره البعض إلغاء للرأي بل تعبيراً عن رفض الرأي أو رفض صاحبه أو رفض الاثنين معاً.

ببساطة تستطيع أن تعتبر اختيار البلوك بمثابة الريموت كونترول الافتراضي، الذي تميط به الأذى عن طريقك، وتترك للآخرين حق اعتبارك أذى تجب إماطته عن طريقهم، ولو تعامل الناس معه بهذه النظرة الواقعية لأراحوا واستراحوا، لكن مشكلة وسائل التواصل الاجتماعي أنها جعلت الأمور كلها شديدة الشخصية بأكثر مما هي عليه بالفعل، وجعلت الكثيرين ينسون أن مسألة الصداقة على تلك الوسائل هي مسألة افتراضية متصورة لا علاقة لها بالواقع الحقيقي، وأنها نشأت لتوفير بديل عملي ورخيص ومؤقت عن الوَنَس والصحبة والرفقة، لكنها لا يمكن أبداً أن تكون بديلاً دائماً لذلك، فإن أصبحت بديلاً له، أصبح لديك مشكلة كبيرة تستوجب التدخل الجاد، أو لا تستوجبه، سيكون عليك وحدك أن تقرر الجنب الذي يريحك أن تنام عليه. 

كان صديقي في إطار شغل فراغه المتزايد الذي أحدثه شنق المجال العام، يسعى لوضع مدونة سلوك افتراضية لـ (البلوك) من أجل عقلنة وترشيد استخدامه، تحدد مجموعة معايير يتم اتخاذ قرار (البلوك) بناء عليها، لأكتشف خلال استعراض ما اقترحه من معايير أن أغلب ما كنت (أُبلوِك) من أجله من قبل، خصوصاً في عامي 2013 و2014 بكل ما جلبتاه من كوارث ومذابح، لم أعد بعد ذلك متمسكاً به، وأن كثيراً منه أصبح يدعو إلى مجرد (الأنفولو) أو (الميوت) في حالة تويتر، وهو قرار أظنه يمثل أجمل أشكال إماطة الأذى التي وفرتها لنا التكنولوجيا، ولو أنها كانت متاحة بشكل ما في الحياة الواقعية، لتغير شكلها كثيراً إلى الأفضل. تخيل نفسك مثلاً وقد نجحت في تحويل أكثر الأشخاص إزعاجاً من أقاربك وزملاء عملك وجيرانك إلى كائنات مرئية لكنها منزوعة الأذى المباشر، تمر إلى جوارها دون أن تسمع لها رِكزاً، ودون أن تكون مضطراً لسماع آرائها السخيفة وتنظيراتها البضينة، وربما لكي تنجو من أي تعقيدات اجتماعية، تقوم بإلغاء (الأنفولو) في الأعياد والمناسبات لعدة ساعات، تعصر على نفسك فيها ما تيسر من ليمون الصبر، وتؤدي الواجب الاجتماعي بأسرع وقت ممكن، ثم تعود بعدها إلى منطقتك الخاصة المحررة من الأوغاد والثقلاء، دون أن تشعر بتأنيب ضمير لأنك تمارس التمييز ضد الآخرين، لأن امتلاكهم لنفس التقنية وقدرتهم على استخدامك ضدها يحررها من شبهة كونها تمييزاً. 

حين أتأمل علاقتي بمسألة (البلوك)، أجد أنني كنت مبالغاً أكثر من اللازم، حين كنت أقوم بعمل بلوك لكل من أجده مصاباً بداء اليقين الكامل، لأنني كنت أعتبر وجوده في حياتي أمراً يؤثر عليها سلباً بأكثر مما يتصور، لست ضد أن يقول صديق لي رأيه في شيء ما، أياً كان اختلافي معه، لكن أن يتحول إلى نبي من أجل نشر رأيه ذلك في كافة التدوينات التي أكتبها أنا وغيري، وأن يتشنع مع الوقت في التعبير عن رأيه، فيتحول إلى "نزناز" يسبب للروح صداعاً صعب المداواة، فذلك أمر كان يستحق (البلوك) في رأيي، خصوصاً أنني أؤمن أن أهم فضيلة يمكن التحلي بها في هذه الأيام العصيبة التي يمر بها الكون هي فضيلة الشك، وأرذل رذيلة يمكن أن تصيب المرء وتطرطش على من حوله هي رذيلة اليقين وإدمان الحتميات. 

لست أتحدث هنا فقط عن اليقين العام الذي ينطوي خلف شعارات مثل (افرم يا سيسي) أو (مرسي راجع) أو (بكره الثورة تقوم ما تخلي) أو (ما فيش فايدة)، فمثل هذا النوع من اليقين لم يعد يستفزني بنفس القدر، لأن ترك صاحبه للحياة يظل أسلم وأفضل، بل أعني أيضاً اليقين الملازم للبعض في أحكامه ومواقفه الشخصية من الآخرين، لينصب من نفسه قاضياً على الآخرين، تعليقه هو مطرقته التي يطرقع بها قبل أن يصدر حكمه العادل، لكنه يأخذ في الوقت نفسه موقفاً حاداً من أي تشكك في حكمه، فضلاً عن أي هجوم أو سخرية، لكن الوقت كشف لي عن مشاكل اللجوء إلى (البلوك) للتعامل مع هذا النوع من البشر، وأبرزها أن الغالبية العظمى من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، أو على الأقل الغالبية العظمى ممن عرفت منهم، يستخدمونها لكي يشعروا أنهم أفضل من غيرهم بشكل أو بآخر، إما أنهم أكثر حكمة أو عمقاً أو صلابة أو ظُرفاً أو إنسانية، وربما كان هذا أكثر أسباب شعبية وسائل التواصل الاجتماعي، أنها تمكن أغلبنا بطريقة أسهل وأكثر انتشاراً من توجيه رسائل مباشرة إلى الآخرين عن فضائلنا التي يحتاجون لرؤيتها أو يحتاجون للتركيز عليها حين يتعاملون معنا، ولذلك لو قمت بـ (بلوكة) كل من يستفزك بممارسة تفوق مزعوم على غيره، لأصبحت أبا ذر السوشيال ميديا، تعيش وحدك وتموت عليها لوحدك، وهو أمر صعب بل مستحيل، مهما بدا تصوره سهلاً. 

التذاكي، السماجة، اليقين المَرَضي، الرذالة، الهستيريا، الادعاء، استسهال الأحكام، استعراض العضلات المجاني، كل هذه الرذائل الاجتماعية التي تعتقد دائماً أنك مبرأ منها، وأنها تخص الآخرين فقط، لم تعد مجبراً أن تلجأ إلى البلوك لتخليصك من المبتلين بها من أصدقائك وأقاربك ومعارفك، أما من لا تعرفهم بشكل شخصي فليس عليك حرج ولا جناح أن تلجأ إلى (بَلوَكتهم) دون أسباب، خصوصاً إذا كانوا ممن يظنون أن قراءة رأيهم فيك مطبوعاً يجعله بالضرورة صحيحاً أو قادراً على إلحاق الأذى الفعلي بك، أو ممن يبهجهم البلوك ويشكل لهم حدثاً صاخباً يحبون الاستشهاد به لتأكيد قدرتهم على التأثير، وإذا كنت تعاني من الغضب والاحتقان ونفاد الصبر الذي قد يدفعك إلى خسارة أصدقاء حقيقيين تهتم بأمرهم، فلا تدع الغضب يتملكك ويجعلك تخسر أناساً ربما كانت صحبتهم في الواقع الفعلي أفضل وأجمل، ولا تنس أن شريعة (السوشيال ميديا) السمحة لم تضع عليك حدوداً في استخدام (الأنفولو) و(الميوت) و(السنوز) و(الهايد) وغيرها من الخيارات الجميلة، ولو أنك تحملت بعض منغصات (المنشنات)، لوجدت أن الحال سيكون أفضل وأجمل حين يصفى ويروق لك (التايم لاين) على من يشكل لك قيمة مضافة من المعرفة أو البهجة أو اللطف الإنساني أو البذاءة الضرورية أو الرقاعة المحكومة، ولا أظن أن حياة أي منا على مواقع التواصل الاجتماعي تخلو من كل من يقدم بعض ما سبق ذكره أو مزيجاً من ذلك كله، لكن تأثيرهم غالباً ما يضيع في زحام الأذى الذي نستخسر إماطته عن طريقنا. 

طبعاً، في مثل هذه الفقرة أو في الفقرة السابقة لها، سيهبط عليك من يحدثك عن خطورة العيش في صوبات مغلقة، لا وجود فيها للآراء المخالفة، وأن ذلك يمكن أن يعطيك انطباعاً مضللاً عن الواقع، فتظن أن اللطف هو "الديفولت"، وأن احترام الآخرين هو الخيار الشائع، ثم عند أول اصطدام لك بالواقع ستكتشف الحقيقة المرة، وصاحب هذا الرأي في العادة ستجده من أشد المفرطين في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لدرجة أنه أصبح يعتقد أنك مثله لا تعيش خارجها، ولذلك يخاف عليك من خطر ليس موجوداً، خاصة لو كنت إنساناً طبيعياً تخالط الناس وتمشي في الأسواق وتقرأ الصحف وتشاهد التلفزيونات، وعندها لن تكون بحكم تجربتك اليومية مضللاً بأي أوهام من أي نوع، وستصبح حساباتك على السوشيال ميديا هي واحتك التي تلجأ إليها في أوقات الفراغ للتسلية أو الترويح عن النفس، أو تلتقي فيها بمن يمتلكون لطفاً لا تراه بسهولة في حياتك، أو لكي تُملّي عينيك بصحبة الكائنات المعرضة للانقراض من أولئك الذين لا يزايدون على غيرهم ويحترمون حرياتهم واختياراتهم ولا يشغلون أنفسهم بتقييم البشر وتصنيفهم، وربما نجحت في تطوير ذلك إلى تعارف وتحاور مع أناس يصعب أن تراهم في مجالك الواقعي اليومي، وهو ما أظن أن حسابات التواصل الاجتماعي كانت مصممة من أجله في الأصل، قبل أن تتحول في بلادنا بسبب موت السياسة وانهيار الصحافة وتحلل الإعلام إلى منابر سياسية ومنصات إعلامية ومحاكم فكرية وبديلاً عن الأحزاب والأندية والمقاهي والبيوت.

أدام الله علينا وعليكم نعمة (البلوك) وراحة (الأنفولو)، دون أن يحرمنا من القدرة على قراءة الواقع الفعلي بشكل سليم، وعدم المكابرة في إدراك حقائق الحياة المركبة المريرة، وجعلنا جميعاً ممن يدركون أن الحياة قصيرة جداً، فطوبى لمن كان شعاره فيها (دع ما يغيظك إلى ما لا يغيظك). 

 

دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.