في فلسطين: ما العمل؟

25 مارس 2015
+ الخط -
إنه سؤال ما بعد الانسداد الذي استعار لينين صيغته المختصرة، من عنوان رواية لأديب وصحفي روسي أسبق منه في الولادة بأكثر من أربعين عاماً، كان يجيب، في روايته، عن أسئلة طرحتها رواية منشورة بعنوان "آباء وبنون" للأديب الروسي تورغينيف.
كانت "ما العمل؟" الرواية محصلة مخاض فكري، قدمت رؤيتها لمدى الحراك الاجتماعي الذي يتوخاه تورغينيف، في صراع المُثل مع الأعراف، أو في صراع القيم والمدركات النبيلة، مع الجمود والتجلط واللغة العقيمة. ثم أدلى لينين بدلوه، فكتب "ما العمل؟" أخرى، متجاوزاً استيهام المخيلة الأدبية إلى خطوات عمل حركي، ينتمي إلى جنس السياسة.
بعدها، دأب على استعارة السؤال، كل من أعياه أو حيّره الانسداد، ولم يرَ جواباً عن أسئلة المجتمع وقضاياه، سوى الجديد والثوري، بعد إعادة قراءة الواقع، وإعادة توصيفه، ثم تلمّس السبل للخروج من المأزق. والسؤال، بطبيعته، محايد أيديولوجياً، يصلح لكل أمةٍ ولكل شعبٍ ولكل زمان. لذا، يصح القول: ما العمل، الآن، فلسطينياً؟
ثلاثة عناصر، يمكن أن تقوم عليها الإجابة، مثلما يقوم الماعون فوق النار على أثافٍ ثلاثة: الأول، إن الشعب الفلسطيني موجود وسيظل موجوداً، وقد فشلت أعتى هجمة إمبريالية على أرضه ومصيره وحياته اليومية، في إبادته أو تضييعه أو إذابته في بوتقات شعوبٍ، حتى من أمته نفسها. والعنصر الثاني، أن للعدو طبيعة عجيبة، لا مثيل لها في التاريخ، فهو عنصري إقصائي جشع، ومجرم وبلا أخلاق، واستثنائي في عناده واستعلائه وتبجحه، إلى درجة أنه غير مسبوق في تاريخ الصراعات التي يتقبل في نهاياتها المنتصرون تسليم أعدائهم بالهزيمة. فالمحتلون الصهاينة، في جوهر سياساتهم، يرفضون تقبل الهزيمة بمعناها التاريخي، من أعداء سلّموا لهم بالحق في 78% من أرض فلسطين. ذلك لأنهم لا يريدون أن يكون عدوهم مهزوماً وحسب، وإنما أن يكون عبداً. فالمهزوم، في رؤيتهم، يمكن أن يلملم أشتاته، ويعاود الكَرّة، أما العبد فديمومة العبودية صفته وسمة حياته ومستقبله. والصهيونيون، المعروفون باستهتارهم بدروس التاريخ، لا يكترثون لحقيقة أن العبيد أنفسهم تحرروا، وكان القرن التاسع عشر خاتمة أحزانهم، إذ أُغلقت بقايا أسواق النخاسة العلنية المذمومة. ولم يعد بالإمكان استعادة تاريخ أثينا في أوج ديمقراطيتها، في العام 850 قبل الميلاد، عندما كان معظم سكانها من العبيد، حسب هوميروس.
العنصر الثالث، أن الشعب الفلسطيني يفتقر، اليوم، إلى صنو حياته وضمانة الاستمرار في إعلاء شأن قضيته، وهو الاجتماع السياسي الذي يستند إلى عناصر ثلاثة، هي طبقة سياسية، نافذة وواسعة وتعددية، وذات ثقافة ديمقراطية، ولها مؤسسات رصينة ومُهابة، وكتلة شعبية تساندها على قاعدة القبول الشعبي الجماعي، باعتبار أنها هي (هذه الكتلة) التي تفرزها وتكلفها بمهامها. ذلك لأن الحال، اليوم، تتسم بفقدان القضية الكتلة الشعبية التي تساند طبقة سياسية موثوقة، من أي طيفٍ كانت. ولما كان الشعب لا يزال موجوداً، والعدو لا يزال على طبيعته؛ فلا بد من اجتماع سياسي، تُستعاد به الكتلة البشرية المساندة لشريحتها، المكلفة بأداء واجبها على طريق الاستقلال الوطني.
في الإجابة عن سؤال: ما العمل؟ لا بد من مواجهة الحقائق. فما نحن فيه هو ركام وتيه، لهما أسباب موضوعية وأخرى ذاتية. في الأولى، وقعت على رؤوسنا ضغوط هائلة من الأعداء ومن الأشقاء، ومرت سنوات، في الإقليم، وكأن مذكرة إلقاء قبض على الشعب الفلسطيني مورست من دون الإعلان عنها، وتفاقمت لتبلغ الذروة، بالغزو الأميركي للمنطقة، وبحروب الفتن والانقسامات العربية البينية والداخلية، ومن جراء الارتهان، سراً وعلانية، لمتطلبات المشروع الصهيوني. أما الأسباب الذاتية فتنحصر في الانقسام، وفي غياب الإحساس بالحاجة إلى اجتماع سياسي، ذي مؤسسات مقتدرة، بل في تعمد التحاشي الفاضح لمثل هذا الاجتماع.
ربما تكون هذه مقدمة الإجابة عن سؤال: ما العمل .. فلسطينياً.