في طليعية أنطوان زحلان

15 ديسمبر 2015

أنطوان زحلان أحد رواد الثقافة العلمية العربية الحديثة

+ الخط -
لا يقل المفكر الفلسطيني، أنطوان زحلان، (1928 أطال الله بعمره)، أهمية وطليعية تنويرية متجاوزة عن أقران له مبرزين، من أمثال: هشام شرابي وأنيس الصايغ وإسحق موسى الحسيني وحنا بطاطو وصبري جريس وأنطونيو سقا وإدوارد سعيد ووليد الخالدي وإبراهيم أبولغد وإلياس شوفاني ويعقوب حنا وإبراهيم فوال وعزمي بشارة وغيرهم.. وغيرهم. ويتميز زحلان عن أقرانه هؤلاء، وغيرهم من رموز عرب فلسطين الكبار، بتلكم النزعة العلموية التخصصية، وهو يدفع بها لأجل ترسيخها، نظرياً وعملياً، على المستوى العربي العام؛ أولاً، من خلال تأسيسه وترؤسه جمعيات علمية عربية عدة مثل: "الجمعية العلمية الملكية الأردنية" (1969 – 1970)، و"الجمعية الفيزيائية العربية" (1975)؛ وثانياً، من خلال دعواه وإيمانه "بأن العلم موجود في كل مكان حولنا، وبأنه قوة لا تقاوم، ولا بدّ من تمكين المرء، لاستخدام هذه القوة بشكل تنافسي وفعّال؛ والتحدّي هو كيف يستطيع المرء أن يكون متمكّناً".
كما نظّم زحلان غير مؤتمر للعقول العلمية العربية المهاجرة، انطلاقاً من نظرته القومية الرياديّة للسياسة العلموية والتكنولوجية الخلاّقة في الوطن العربي، والتي نظّر لها، بهذه الكيفية أو تلك، في كتبه العلمية الكثيرة، وفي الطليعة منها: "البعد التكنولوجي للوحدة العربية" و"العلم والسياسة العلمية في الوطن العربي" و"العرب والعلم والثقافة" و"العلم والتكنولوجيا في الصراع العربي – الإسرائيلي" و"العلم والسيادة.. التوقعات والإمكانات في البلدان العربية"... إلخ.
هل هناك شيء اسمه العلم العربي؟ يتساءل أنطوان زحلان، ويجيب على السؤال، بأنه، حتى يكون هناك علم عربي، لا بدّ من أن يتبادل رجال العلم في مختلف البلدان العربية معارفهم، وأن يتعاونوا، وأن يشتركوا في الجمعيات العلمية عينها، وكذلك في مراكز البحوث عينها. ومثل هذه الأنشطة تحدث في الحقيقة، لكن على نطاق ضيّق جداً. لهذا، فإن المرء مضطر إلى الاستنتاج بأن هناك القليل من مزاولة نشاط ذلكم "العلم العربي".
والعقبات التي تعترض تطور مجتمع علمي عربي ونموه عديدة في نظر باحثنا، منها: غياب الموارد لتمويل البحوث المشتركة وللتعاون العلمي بين رجال العلم العرب. وانعدام التسهيلات والتجهيزات المشتركة التي تشجعهم على قيام مثل هذا التعاون، فضلاً عن أن للافتقار إلى الدوريات العلمية العربية المحكّمة على مستوى عالمي تأثيره المعوّق أيضاً، كما أن لمحدودية عدد مراكز البحوث وجامعات البحث العلمي العليا المختصّة أثرها السلبي على قيام حركة علموية عربية جادة. ثم إن العلاقة بين رجال العلم والاقتصاديين العرب ما تزال ضعيفة وخجولة، بل هشة للغاية، وإن حصل شيء منها، فيظل بلا أفق استراتيجي منتظم، يصبّ في دعم مسيرة العلماء العرب، وفي تبلور البحث العلمي العربي ونموه بالتراكم المطلوب، على أن هذا لا يلغي، في المقابل، أن بعضاً من رجال العلم العرب يبذل جهوداً ذاتية حثيثة، لتنمية مثل هذا التعاون، لكن الموارد المتوفرة له تبقى ضئيلة وشحيحة للغاية. ولذلك، لا تؤدي، في المحصّلة، إلى نتيجة تذكر.

في اختصار، وبحسب أنطوان زحلان، العلم والجامعات ومؤسسات الأعمال مكوّنات مركزية في كل مراحل التنمية العلمية العربية وغير العربية، وحتى تستطيع هذه المكوّنات أن تعمل بفعالية وإنتاجية، يجب أن تكون مترابطة بشكل عضوي. ومن هنا، يلفت باحثنا إلى أن الحكومات العربية وجامعة الدول العربية أبدت اهتماماً ملحوظاً بالعلم والتكنولوجيا والتعاون الاقتصادي العربي، قبل سبعينيات القرن الفائت، لكن الانتكاسات الأولى لتلك المحاولات جعلت الحماسة المبكّرة تفتر وتتعثر. ويذكّر بأن اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة في البلدان العربية، عندما كان تحت إدارة برهان الدجاني، استطاع أن يقيم علاقة بين عالمي التكنولوجيا ورجال الأعمال العرب المستثمرين. وقد ركّزت هذه الجهود على الاستثمارات الإفرادية، وأثمرت بعض النتائج.
في المقابل، نلحظ أن عمل رجال العلم العرب نجح وينجح في البيئات غير العربية، ففي ميدان تكنولوجيا المعلومات، مثلاً، لا بدّ من ذكر شركة "موركس" التي هي بمستوى عالمي، في تطوير برمجيات الخدمات المالية المتقدمة. وقد أسسها ثلاثة إخوة لبنانيين في فرنسا. وتحاول هذه الشركة إقامة مركز قوي لها في لبنان، لكن جهدها، في هذا المجال، تعثر بسبب غياب التشريعات المناسبة حول ازدواج دفع الضريبة (بين فرنسا ولبنان)، وكذلك بسبب ضعف البنى التحتية للمعلوماتية والاتصالات. وتأسست شركة "نولدج فيو" في بريطانيا، بواسطة خبير كومبيوتر عراقي في المملكة المتحدة، ونجحت في تطوير برمجيات وتسويقها في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وفي الأسواق العربية منتجاً أجنبياً.
ترتكز هذه الأنشطة كلها على العلم، ويمكنها أن تكون أحجار البناء في أي اقتصاد عربي حديث. والتحدّي الذي يواجه البلدان العربية هو كيف تجعل من الممكن تأسيس مزيد من هذه الشركات، ثم تمكينها من المنافسة بنجاح في بلدانها، وفي الأسواق العالمية، على حد سواء.
مقطع القول: تحدّيات العلم تعمّ العالم كله، والأمم الحيّة كافة تستفيد من طاقات أبنائها وأبناء الآخرين من أمم أخرى، متخلفة في شروط نهضتها السياسية والتنموية والعلمية، وفي الطليعة بينها بلداننا العربية التي تشهد نزفاً هائلاً على مستوى الأدمغة العلمية الكبيرة لديها، خصوصاً في ميادين التخصّص المتقدمة، قد يصل إلى مستوى 80% من خريجيها على مستوى الدكتوراه.
ولا تنبع المشكلات التي تواجه البلدان العربية من العدد الكبير للأميين فيها، بقدر ما تنبع (حسب رأي عالمنا، أنطوان زحلان) من سياساتها التكنولوجية ورداءة نوعية التعليم فيها، خصوصاً في حقول الرياضيات والعلوم النظرية والتقنية على اختلافها.
وما دام هذا النزف المروع يؤثر على الأمن القومي العربي، فإن الطريقة الوحيدة لحماية أمننا، في هذا العالم الحديث المعولم، هي بتحقيق التوازن مع باقي الدول في العلم والتكنولوجيا والإبداع الخلاق. والدول التي لا تحقق مثل هذا التوازن تعرّض نفسها لحالة دائمة من التخلف. وعليه، فإن القدرة على القيام بالبحث والتطوير هي ما يمكّن مجتمعاً ما في النتيجة من تأمين موقعه اللائق في عالم يتقدم باستمرار.
ويعزو أنطوان زحلان التأخر العلمي عند العرب إلى المسألة الإستعمارية الغربية؛ فلقد بدأ التقدم العلمي الأوروبي ينزل الضربات في المنطقة منذ عام 1498، مع وصول البرتغاليين إلى مياه الخليج. وما بين عامي 1498 و1800، كانت هنالك عملية كثيفة من التحلل الاقتصادي والتكنولوجي للاقتصاد العربي؛ تلتها 150 سنة من الاحتلال المدمر. وفي الفترة بين 1800 و1950 استخدمت الإنجازات العلمية والتكنولوجية في تدعيم السيطرة الأجنبية على المنطقة، وما زالت هذه العملية مستمرة.
هكذا، وبعيداً عن نظرية المؤامرة، لا ننتظرّن من الغرب، بعد وبعد، أن يقوم بالتفكير عوضاً عنا في أوضاعنا ومعطياتنا وفكرنا النهضوي الشامل، والذي يقوم، في الأساس منه، على مرتكزات العلم والتكنولوجيا. الأمور هنا، حقيقة، تبدأ بنا وتنتهي بنا، على غرار أمم أخرى استفادت من الغرب في نهضتها العلمية في كل شيء، وها هي ماضية إلى التفوق عليه، وتجاوزه اقتصادياً، وحتى في الميادين العلمية أيضاً، كاليابان والصين.
أنطوان زحلان، أحد رواد الثقافة العلمية العربية الحديثة الكبار. هو، ومن معرفتي المباشرة به، ينطلق دوماً من معادلة أن العلم مبدأ للعمل والعمل تمام العلم.

A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.