في سمات خطاب الاستبداد

10 يناير 2019
+ الخط -
يستند التشابه الأقرب إلى التناسخ في خطابات النظم المستبدة إلى خصائص مشتركة، على الرغم من الاختلاف في شكلها السياسي، ما يعود إلى تشابه مضامين سياسات تلك النظم ونتائجها، على المستويين الاقتصادي والسياسي. وبالتالي، فإن خطابات المستبدين ومكونها اللغوي متقارب، وإن حدث وأجرينا تحليلاً إحصائياً لها، لخرجنا بمؤشراتٍ كمية واضحة، بدايةً من تكرار الكلمات نفسها، وتشابه مضامين الخطاب ودلالته النفسية والسياسة، وكذلك الفئات التي يوجّه إليها، سواء من مكونات السلطة، وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية ومؤسسات القضاء والدعاية أو القوى الاجتماعية المرشّحة للاحتجاج من الفئات الشبابية والنسائية، وفئات عاملة ومتقاعدين، وصولاً إلى قوى المعارضة، يوجه خطاب الاستبداد لكل فئةٍ رسائل تخصها بأهداف محدّدة، سواء ما ارتبط بالوعود وكسب التأييد، أو المرتبطة بالوعيد والتهديد، وبث المخاوف لكي تخضع للنظام.
يتدرج المستبد في مستويات ردود الأفعال والخطاب إلى مراحل ثلاث: يعلن غضبته في البداية، ويطلق تحذيراته، ثم يقرّ بشرعية المطالب الشعبية التي يرفعها المحتجون، ولا ينفي حق المحتجين في التعبير السلمي، ولكنه يحذّر من التخريب والمؤامرات ومخططات هدم الدولة، والتآمر على الوطن، ثم تبدأ المواجهات مع المحتجين، وإذا ما فشلت في قمع المعارضين تبدأ مرحلة تقديم التنازلات.
الحديث عن مزيد من الوعود ومستقبل أفضل سمة غالبة، سواء أقام المستبد في الحكم فترتين رئاسيتين، أو خمس فترات. يظهر المستبد لحظة الاحتجاج الشعبي وكأنه حاكم جديد، ما زال يتعرّف إلى البلد، مواردها ومشكلاتها والمخاطر التي تهدّدها، تشعر بأن ما فات من أعوام 
المعاناة في ظل حكمه كان فترة تدريبٍ على الحكم. وسيبدأ حالاً تنفيذ رؤيته المغايرة في عهده الجديد، عهد عنوانه بناء الإنسان، وتوفير الخدمات، وشعاره التنمية المستدامة. لا ينسى المستبد شكر الشعب الصامد، ويعد بأنه سيكمل المسيرة، بفضل صبر الشعب وصموده ووحدته، وتفهمه الظروف، وقدرته على البناء، يطالبه بالاستمرار في الأمل وتجاوز المحن ودعاوى المحبطين والمؤامرات.
يُعلن المستبد عن ثباته وقوته واستقرار نظامه، بينما يتلعثم ويرمش، ويلتفت هنا وهناك مع كل خطاب، يكذب، يتعرّق ويرتبك ويغضب، ويرفع صوته، وهو يتحدّث عن المؤامرات ومخططات إسقاط الدولة من قوى الشر. يكرّر الرسائل نفسها عن إعلان الصمود أمام تحديات الظروف الدولية، ومحدودية الموارد الاقتصادية. يؤكد أن كرامة المواطنين من كرامة الوطن، وأن استقلال البلد وبناءها وإصلاحها خيارٌ إلزامي، على الرغم من فداحة الثمن الذي خصم من شعبيته، يقوم المستبد بجردة حسابٍ سار في طريق الإصلاح والبناء، حتى لا يُباع الوطن بالدولار، أو القمح والمساعدات الخارجية. يذكّرنا المستبد بطرق وجسور ومساكن ومشاريع إنتاجية، ويعد بالمزيد. ينطلق الخطاب من قاموس طويل هنا، ربما تختلف فيه المنطلقات، من الحفاظ على ثوابت الأمة، إعلاء قيم الإسلام والعروبة، الحفاظ على استقلال الوطن وحريته ووحدة أراضيه، وحفظ قيم الجمهورية العربية.

يمكن هنا الحديث عن الرئيس السوداني عمر البشير الذي يحكم السودان منذ ثلاثين عاماً بعد انقلاب عسكري. ألقى، منذ بداية انتفاضة ديسمبر/ كانون الأول 2018، أربعة خطاباتٍ، ليذكر هو ورجاله بأن التغير مفتوح، وطريقه الوحيد صندوق الانتخابات.
يوضح في كل مرة بؤس خطاب النظام الذي أدركته الشيخوخة، وطاوله الإفلاس، وتسبب في جرائم عنصرية وحروب أهلية، وتراكم مشكلات اجتماعية واقتصادية، يحتاج تفكيكها إلى سنوات طويلة، بينما يعد البشير ورجاله بتفكيك الأزمة خلال شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، وهو الذي لم يستطيع خلال ثلاثة عقود تغطية السودان بشبكات مياهٍ صالحة للشرب، في بلد تمر في أرضه عشرة أنهر. وتسبب نظامه أخيراً بأزمةٍ في الخبز والنقد، ما أشعل انتفاضةً إثر تراكم ثلاثين عاماً من القهر ونقص الخدمات. لم يتبق نشاط اقتصادي يوفر ما يحتاج إليه الناس من سلعٍ وخدمات، بينما يتم الاستيلاء على موارد الدولة لتصبح السودان من أكثر دول العالم فساداً، وملايين من مواطنيها لاجئين في قارات العالم، في وقت تتاجر فيه الطبقات الحاكمة في ثروات الشعب، وتشتري قصوراً في دبي ولندن، وتشعل أسعار السلع والعقارات وتأزم خدمات السكن والصحة.
تغلب على خطاب المستبد العاطفية والذاتية، يقف الرئيس القائد الزعيم متحدّثاً عن كفاحه وحياته، منذ كان طفلاً عاملاً يفتقر إلى التأمين الصحي. لذا يريد أن يوفر العلاج، ويكافح الفقر والعوز الذي عرفه جيداً، ولا يتخذه شعاراً للدعاية، في غمزٍ تجاه كل معارض للسلطة، بوصفه طامعاً فيها متاجراً بالشعارات، وناشراً للفوضى، أو إرهابياً مخرّباً، وتابعاً للمؤامرة على الوطن التي تقودها سفارات خارجية، ودول معادية، ووكالات أنباء تشتري قيادات الاحتجاج، وتشيع الفوضى وتخرّب البلاد، وتفسد أجواء الاستقرار الضروري للتنمية، بجانب التشويه والاستبعاد من الوطنية سمةً لخطاب الاستبداد، يدعو الخطاب إلى ثقافة الحوار والوفاق الوطني والحفاظ على الجبهة الداخلية.
يؤكّد المستبدون أن الاحتجاجات ليست حلاً، فهي تخرّب الممتلكات الخاصة والعامة المبنية بأموال الشعب، وتعطل عجلة الإنتاج والاقتصاد، وتزيد الأوضاع سوءاً. وهنا تظهر سمة تشويه الاحتجاج، وتأليب قطاعاتٍ من الشعب على المحتجين ورموز الانتفاضة، بوصفهم متربّحين عملاء، ودعاة تقسيم الوطن، ليكون خطاب المعارضة منزوعاً عن سياق الأزمة، مرتبطاً بفعل التآمر والتخريب والخسائر نتائجه النهائية. وعلى جانب آخر، يسعى خطاب المستبد إلى إحباط المحتجين، وتبديد آمالهم في التغيير.
إجمالاً، يمكن القول إننا أمام سماتٍ مشتركة لخطاب الاستبداد، أبرزها أن خطاب الاستبداد 
بوصفه عملية اتصالية يستهدف المعارضين بالتخويف والتشويه والعقاب، ويقسّم جبهتهم، ويصوّرهم دعاه سلطة. وكأن السلطة كتبت للمستبد حتى يموت، بينما يحاول الخطاب الحفاظ على تماسك موقف الحلفاء والمؤيدين، وفي القلب منهم أجهزة الأمن والطبقات المستفيدة من وجوده. ويستهدف أيضاً تحييد كتلة المترددين، لتكون أقرب إلى الخضوع أو الصمت. يستخدم المستبد كل المخاوف النفسية من قلق وارتياب من المستقبل إذا رحل. ويركز خطاب الاستبداد على مخاوف افتقاد الأمن والاستقرار، بوصفهما أغلى سلعة، والتهديد بالفوضى إذا ما رحل النظام.
ويتوعد خطاب الاستبداد بالحساب والعقاب بالقانون، بينما هو يسجن ويعذّب ويقتل، وينشر التشكيك في قادة الاحتجاج، ويحاصرهم، يستخدم بعض الحقائق لتزييف الوعي، بينما تركز خطابات الاستبداد، في لحظات اتساع الحراك الاحتجاجي، على زرع الصراعات الإثنية والثقافية والجهوية لتستبدلها بالصراع الاجتماعي والسياسي الذي يكمن خلف الاحتجاج، وعلى تزكية هذه الصراعات.
ومن سمات خطاب الاستبداد أيضاً استناده إلى البنى التقليدية للضبط، كالقيم الدينية والاجتماعية. كذلك يوظف القيم والمثل العليا، كالوطنية والاستقلال والحرية، شعارات يدّعي حمايتها. يعد المستبدون دوماً بمستقبل جديد، إذا استمروا في السلطة، بداية من تطبيق مبادئ المحاسبة والشفافية والمضي في تحسين أحوال المواطنين، عبر إصلاحات اجتماعية، كزيادة الرواتب، توفير خدمات السكن والصحة، وفرض مظلة الرعاية الاجتماعية على الفقراء والمهمشين وكبار السن. وعموماً يسعى الخطاب، في لحظات الأزمة، إلى نشر الأمل والوعد بالتغيير، وصولاً إلى فتح الأبواب واسعةً للتنافس السياسي والوصول إلى السلطة عبر الصناديق، وكأنه جاء هو بالصناديق أيضاً.
دلالات
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".