من بين عشرات الممثلين الكوميديين المصريين والعرب، يظل اسم نجيب الريحاني في صدارة الروّاد على الصعيدين المسرحي والسينمائي. وتمر اليوم الذكرى الـ70 على رحيل هذا الفنان العملاق الذي أثرى المسرح والسينما بمئات الأعمال خلال مشواره الفني المميز.
وُلد نجيب الريحاني في باب الشعرية في القاهرة، لأب عراقي وأم مصرية، سنة 1889، وتلقّى تعليمه في مدرسة الفرير الفرنسية في العاصمة المصرية. بدأ عشقه المبكر لفن التمثيل والأدب أيام دراسته. تُوفي والده مبكراً، فاضطر إلى العمل بعد حصوله على البكالوريا في البنك الزراعي الذي تعرّف فيه على صديقه المخرج المسرحي عزيز عيد. بدآ سوياً رحلتهما الفنية المشتركة بالعمل "كومبارس" في إحدى الفرق الأجنبية التي كانت تقدم عروضها في دار الأوبرا، وكان أوَّل عمل يقف فيه الريحاني على خشبة المسرح بعنوان "الملك يلهو".
المفصول دائماً
كان بديهياً أن يكون الريحاني من أوائل المنضمين إلى فرقة عزيز عيد المسرحية التي تأسست في سبتمبر/أيلول سنة 1907. وكان عزيز عيد قدم استقالته من العمل في البنك الزراعي وأسس فرقته المسرحية. فيما انشغل الريحاني عن وظيفته في البنك بسبب المسرح، وكثر غيابه فتم فصله من العمل. وفي 1908، انتقل الريحاني إلى الإسكندرية للمشاركة مع فرقة سليم عطا الله في مسرحية "شارلمان"، وأدى دوره الثانوي بإجادة غاظت البطل الرئيسي للعرض وهو سليم عطا الله نفسه، فقرر فصله حين شعر أنه من الممكن أن يحقق شهرة كبيرة تتجاوزه شخصياً.
بعد حوالي عامين من البطالة، انتقل إلى الصعيد ليعمل موظفاً في مصنع السكر في نجع حمادي. ولم يمكث فيه طويلاً حيث فُصل من العمل بعد تحرّشه بزوجة مديره في العمل، فعاد إلى الجلوس على المقهى في القاهرة. وحين ملّت منه والدته طردته من البيت بعد أن ضاقت به ذرعاً، فعاش متشرداً ينام ليله على الأرصفة ويقضي نهاره على المقاهي، إلى أن حصل على وظيفة مترجم في فرقة أحمد الشامي المسرحية، وكان يتقاضى أجره لبناً وبيضاً، حيث لم تنه وظيفته الجديدة حياة التشرد، إلى أن سعت أمه في إعادته إلى وظيفته في مصنع السكر. هناك استقام أمره لمدة عامين، ثم انتهت رحلته في هذه الوظيفة سنة 1912 بالفصل مرة أخرى! ويبدو من الأفلام التي نشاهدها أن مشهد فصل الريحاني من وظيفته يتكرر دائماً بأشكال مختلفة، وهو ما يعد انعكاساً حقيقياً لما مر به في حياته.
مع جورج أبيض
راود الريحاني حلم الالتحاق بفرقة جورج أبيض، وشارك معه في مسرحية "صلاح الدين الأيوبي" سنة 1914، في دور صغير هو شخصية ملك النمسا. وقد حاول الريحاني التجويد في دوره، فانقلب الدور من تراجيدي إلى كوميدي، وكان ثمرة ذلك أن قام جورج أبيض بفصله من الفرقة، فعاد إلى المقهى مرة أخرى. وفي 1915، أسس عزيز عيد بمشاركة الريحاني وآخرين فرقة مسرحية قدمت بعض العروض الفاشلة، ولم تدم الفرقة لأكثر من عام واحد. وفي رحلة أخرى سنة 1916 فاشلة فنياً وناجحة مادياً بعض الشيء، قدم الريحاني مجموعة مسرحيات خيال الظل، بمصاحبة صديق كفاحه ستيفان روستي.
كشكش بيك
لكن انطلاقة الريحاني الفنية الحقيقية كانت في منتصف نفس العام، مع ما يسمى المسرحية "الفرانكوعربيَّة"، وفيها ابتكر شخصية "كشكش بيك"، وهو عمدة ريفي ساذج فيه بعض المكر، يذهب إلى المدينة وتضيع أمواله في الملاهي الليلية بحثاً عن الشهوات والنزوات، وهي شخصية استلهمها الريحاني من شخصيات حقيقية قابلها حين كان يعمل في البنك الزراعي.
كانت مدة المسرحية الواحدة عشرين دقيقة، ألفها الريحاني بنفسه، وكان عنوان المسرحية الأولى "تعالي لي يا بطة"، بعدها توالت النجاحات والمسرحيات، مثل "ستة بريال" و"بكرة في المشمش" و"خلِّيك تقيل!"، و"هزِّ يا وز"، و"إدِّيلو جامد"، و"بلاش أونطة". وكانت عبارة عن اسكتشات كوميدية تتخللها رقصات استعراضية. وكان على إثر ذلك أن أسس الريحاني فرقته الخاصة، فكان مديرها ومؤلفها وبطلها الأول.
تعرّف نجيب الريحاني على بديع خيري عام 1918، وكان أول عمل مشترك لهما هو مسرحية "على كيفك"، وسافر بديع ونجيب إلى الشام واكتشفا بديعة مصابني التي أغرم بها الريحاني وتزوجها، وظل زواجهما مستمراً حتى سنة 1929، حيث اختلفاً فنياً وافترقا أسرياً مع استحالة الطلاق، لأنهما كاثوليكيان.
كان بديع صديقاً مقرباً للريحاني، ومع طول صحبتهما كان نجيب يعتقد أن بديع خيري مسيحياً حتى تُوفيت والدة بديع، فذهب نجيب للعزاء فوجد سرادق العزاء يضم مشايخ يقرأون القرآن الكريم، فسأل نجيب بديعاً هل أنت مسلم؟ فرد عليه بديع: نعم. فقال نجيب: كنت أظنكَ مسيحياً، لماذا لم تخبرني من قبل؟ فرد بديع: لأنك لم تسألني من قبل.
في مرحلة لاحقة، تخلَّى الريحاني عن شخصيَّة "كشكش بك" والكوميديا الفرانكوعربيَّة، واستخدم بدلًا منها شخصيَّات شعبية واقعيَّة، واتجه إلى مُعالجة قضايا هامَّة.
التجربة السينمائية
كان الريحاني، في البداية، عاشقاً للمسرح كارها للسينما، لكنه كان مضطراً إلى مجاراة الواقع السينمائي الذي فرض نفسه، فبدأ رحلته السينمائية بفيلم لم يكتب له النجاح سنة 1930 بعنوان "صاحب السعادة كشكش بك"، وقد ارتجلهُ الريحاني ارتجالًا. بعدها قدم سنة 1933 فيلم "ياقوت"، وفيلم "بسلامته عاوز يتجوز" سنة 1934. وهي أفلام لم يكتب لها النجاح فنياً وإن كان بعضها نجح جماهيرياً. إلى أن جاءت سنة 1937 وقدم فيلمه "سلامة في خير" الذي يعدّ بداية حقيقية لسينما نجيب الريحاني، توالت بعده العديد من أفلامه الناجحة، كان آخرها فيلم "غزل البنات" سنة 1949 مع ليلى مراد وأنور وجدي، حيث توفي في 8 يونيو/حزيران من نفس العام، عن عمر 60 عاماً.