في ذكرى إحراق الأقصى.. أي دور للإعلاميين؟

21 اغسطس 2016
+ الخط -
كان سقوط القدس في أعقاب هزيمة يونيو/ حزيران1967 كارثة كبرى، حقّقت للصهاينة أعظم أهدافهم، منذ تحقّقت الأطماع الصهيونية على أرض فلسطين عام 1948، وعمل المحتلون، منذ اليوم الأول للاحتلال، على ترسيخ الأمر الواقع في المدينة المقدسة، بشكل استباقي للقرارات الدولية التي صدرت عن مجلس الأمن من خلال قرار 242 بعد ذلك بأربعة أشهر، والذي لا يعترف بالاحتلال وتداعياته على الأرض المحتلة، ومع ذلك شرعت بإعلان القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، أي إلحاق القدس الشرقية التي سقطت عام 1976 بالقدس الغربية التي تمّ تهويدها عام 1948، وتهويد حائط البراق، وتسميته حائط المبكى، ضاربةً بعرض الحائط قرار عصبة الأمم عام 1929 باعتبار الحائط وقفاً إسلامياً، وجزءاً أصيلاً من الحرم القدسي، في أعقاب مذابح جرت آنذاك، احتجاجاً على محاولة اليهود تهويد الحائط. وشرعت بهدم حي المغاربة وحي شرف الفلسطينيين على الحائط الغربي للمسجد الأقصى، لإقامة المساحة المخصصة لحائط ما يسمى المبكى، تكريساً لتهويد حائط البراق. وبدأت بعمليات الحفريات "الإسرائيلية" داخل البلدة القديمة، خصوصاً، حول وأسفل الحرم القدسي للبحث عن آثار الهيكل المدمّر منذ آلاف السنين. واتخذت إجراءات عاجلة لتوسيع مساحة المدينة المقدسة، وأطلقت خطة القدس الكبرى على مساحة 600 كلم2 (10% من إجمالي مساحة الضفة الغربية) من بيت شيمش (ديرابان) غرباً حتى أريحا والبحر الميت شرقاً، ومن كفار عتصيون جنوباً (الحدود الشمالية لمحافظة الخليل) حتى رام الله شمالاً.
ودنس جنود ومستوطنون محتلون المسجد الأقصى، واعتدوا على المصلين والهتاف في أرجائه: محمد مات وخلف بنات، وقد حرص وزير الحرب آنذاك، موشيه دايان، على التقاط الصور التذكارية أمام قبّة الصخرة، وصرّح، بوقاحة، بأن احتلال القدس يمهّد الطريق إلى خيبر، حيث كان يقطن أجدادنا من بني قريظة وبني القينقاع وبني النضير. وفرض الاحتلال عقوبات على المقدسيين الذين تمسّكوا ببيوتهم ومتاجرهم، بإلزامهم، منذ اليوم الأول للاحتلال، بدفع ضرائب الأرنونا الباهظة عن أملاكهم، كما فرض القوانين الإسرائيلية عليهم، كأنّهم مواطنون إسرائيليون لا يتمتعون بالمزايا، بل ينالون العقوبات فحسب. وصادرت سلطات الاحتلال أملاك الغائبين والعقارات التي يدّعي الصهاينة أنّها تعود ليهود على الفور، واستولت على آلاف الدونمات لإقامة أحياء استيطانية. وشرعت في تدمير قرى عمواس ويالو وبيت نوبا، وهي القرى الثلاث التي بقيت من بين قرى القدس الغربية التي شرّد سكانها، وهدمت منازلها عام 1948 ليستكمل المحتلون تهويد كامل المدينة. وأحدث الاحتلال طوقاً أمنياً على المدينة المقدّسة من كل أرجائها، ومنع التواصل بينها وبين سائر أرجاء الضفة الغربية، وفي وقت لاحق أقام جدار الفصل العنصري العازل.
وظل الهاجس الأكبر الذي كان يراود القادة الصهاينة هو العامل الديمغرافي، الأمر الذي دفعهم
إلى توطين مئات آلاف من المستوطنين في المدينة المقدسة، سعياً إلى إحداث التوازن الديمغرافي. لذا، لم تهدأ ماكينة التهويد، بعدما استقر الأمر لهم، وواصلوا إجراءاتهم المستفزة في المدينة القائمة على قاعدة الاقتلاع والإحلال، حتى أمكن لهم إعلان مخططهم التهويدي الشامل للمدينة، عبر مشروعهم الاستيطاني الضخم، المسمّى القدس الكبرى الذي تم وسط عجز عربي وإسلامي، وصمت دولي وتواطؤ غربي، حتى تمكّنوا من بناء 34 مستعمرة "إسرائيلية" في القدس الشرقية، شكلت حزامين حول القدس، داخليا في القدس الشرقية، وعدد مستعمراته 16، وآخر خارج حدود القدس الشرقية، وعدد مستعمراته 18. وتحتل المستعمرات ما مساحته 38 كلم2. بالإضافة إلى ذلك، تم إنشاء 18 موقعاً استعمارياً عشوائياً، وشق الطرق الالتفافية التي أقيمت داخل القدس وحولها، لربط هذا المستعمرات ببعضها بطول إجمالي، بلغ حوالى 91 كلم، بما يتسبّب بعزل المدينة عن محيطها الفلسطيني، وتكريس قطع الضفة الغربية إلى نصفين.
وفي غمرة التحريض والتعبئة العنصرية التي لم تتوقف في أوساط المستوطنين وأطفالهم، عبر المناهج المدرسية والإعلام المضلّل والروايات الكاذبة المتوارثة، لم يستسغ غلاة الصهاينة بقاء الحرم القدسي في أيدي المقدسيين، وشرّعت منظماتهم العنصرية ببث مقولات أنّ الحرم قائم على أنقاض هيكل سليمان، ساعدهم في ذلك تبني النصوص التاريخية والجغرافية الغربية للمقولة نفسها بإطلاق لفظ جبل الهيكل (Temple Mounten) على الحرم القدسي الذي يعتبر وقفاً إسلامياً كاملاً.
وقد مهدت هذه الخلفية التحريضية العنصرية لجيل مهووس بهدم الأقصى وقبّة الصخرة، جسّده المستوطن الأسترالي مايكل دينس روهن الذي نفد جريمته في يوم 21 أغسطس/ آب 1969، بإشعاله النار في الجامع القبْلي في المسجد الأقصى، حيث أتت النيران على منبر صلاح الدين بالكامل، وبعض الأروقة والأعمدة داخل المسجد، فهبّ أبناء القدس هبّةً عظمى، يحاولون، بجهدهم اليدوي، أن يطفئوا النيران، ويمنعوها من الامتداد، وانتظروا أن تصل سيارات الإطفاء التابعة لبلدية القدس الإسرائيلية، لكنها تلكأت بالحضور، حتى لا تشارك في إطفاء الحريق، ما يؤكد تواطؤ الاحتلال مع المجرم، علاوة على قطعه المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد في يوم الحريق، ما دفع المقدسيين إلى الاستنجاد بسيارات الإطفاء من المدن المجاورة في رام الله وبيت لحم والخليل، لتسهم في إطفاء الحريق، وتحول دون امتداده إلى كل أرجاء المسجد، وقد ألقت إسرائيل القبض على الجاني، وادّعت أنه مجنون، وتم ترحيله إلى أستراليا؛ وما زال يعيش في أستراليا، وليس عليه أي أثر للجنون أو غيره.
هزّت الجريمة مشاعر المسلمين في أصقاع الأرض، وخرجت العواصم العربية والإسلامية بتظاهراتٍ تطالب بتحرير القدس وتخليص الأقصى من براثن المحتل، ما دفع إلى تنادي القادة المسلمين لعقد أول قمّة إسلاميةٍ، انتهت إلى إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي التي تغيّر مسمّاها إلى منظمة التعاون الإسلامي.
اليوم، وبعد 47 عاماً من الجريمة، لم يعد موضوع القدس يحتل المرتبة الأولى في أجندات
القمم العربية والإسلامية، ولم تعد قضية القدس تحظى بالاهتمام الإعلامي اللازم في غمرة الانشغالات العربية بالجروح الدامية التي تفتك بالجسد العربي، وتعطي لإسرائيل فرصتها الذهبية لتكريس مجدها في أرضنا المقدّسة. ونحن في مبادرة "إعلاميون من أجل القدس"، نعوّل على وسائل الإعلام العربية لإيلاء هذه القضية ما تستحقه من اهتمام، لا يُنسي أجيالنا الطالعة أهمية القدس في الوجدان العربي والإسلامي، وكلنا أمل في أن يسهم الإعلاميون المخلصون في وسائلهم التقليدية، أو في مواقع التواصل الاجتماعي، بأداء دورهم الحضاري، أولاً، لتلبية نداء القدس، نصرةً لأهلها، وتثبيتاً لصمودهم وتشبثهم بحقهم، إلى أن يعود الحق إلى أصحابه الشرعيين.
وإذا ما استنكف إعلاميونا عن أداء رسالتهم الحضارية والوطنية والقومية والدينية، ونهجوا درب السياسيين المتهرّبين من التزاماتهم إزاء القدس وهرولتهم نحو أعداء الأمة، فإنّنا مهدّدون جميعاً ليس بتهويد الحجر، بل بتهويد البشر، وما ينطوون عليه من عقول وقلوب وتبديد حقوقنا الراسخة، فلا تجعلونا نقول على هذه الأمة السلام، بل لنقل ليحل الله بقدرته على هذه الأرض ما تستحقه من سلام.
53092470-F054-42F3-98D5-D46D8DE1F3AC
53092470-F054-42F3-98D5-D46D8DE1F3AC
صالح زيتون

كاتب وصحفي فلسطيني والأمين العام لمبادرة إعلاميون من أجل القدس

صالح زيتون