13 فبراير 2022
في ذكرى "رابعة".. شهادة شخصية
كان المشهد قاسياً، وسيظل محفوراً في ذاكرتي. كنت وقتها في طريق عودتي إلى القاهرة، بعد أن أمضيت إجازة عيد الفطر مع عائلتي. وحيث إنني أقطن قريباً من جامعة القاهرة، وفي منطقة مكدّسة بالبيوت والبشر، كان صوت الطائرات التي تحوم في السماء مفزعاً لي ولأولادي. وما هي إلا لحظات، حتي سمعنا صوت رصاص حي يأتي من بعيد. كان ذلك يوم المذبحة الأسوأ في تاريخ مصر الحديث، في ميداني رابعة العدوية والنهضة، والتي تحل اليوم ذكراها الرابعة. في ذاك اليوم، وفي تلكما البقعتين، سقط ما يقرب من ألف شخص، بحسب الأرقام الرسمية، خلال ست ساعات فقط على أيدي قوات الأمن المصرية، بعد اعتصام لهم دام نحو شهر ونصف الشهر. وهي ذكري كلما مرّت، أعادت معها سجل الذكريات الدامية لذلك اليوم الذي لم تر مصر مثله في تاريخها الحديث.
سارعت، بعد أن وضعت حقائب السفر، إلى فتح التلفاز، لأرى أسوأ مشهد في حياتي. أشخاص يُحرقون أحياء برصاص قوات الأمن المصرية أمام جامعة القاهرة، وهو كما عرفت لاحقاً رصاص محرّم دولياً، وبث مباشر للمذبحة من ميدان النهضة كانت تنقله فضائية "أون. تي. في"، وكانت وقتها لرجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، والذي عرفنا فيما بعد، وباعترافاته، أنه كان من أهم الممولين لحملة "تمرّد" بالتواطؤ مع الإمارات، ومن المخطّطين والمتورّطين في انقلاب "3 يوليو". أتذكر أيضا مشهد تلفيق تهمة امتلاك المعتصمين أسلحة، والذي استخدم حجة لفض الاعتصام، حيث تم وضع أسلحة وذخيرة حية في صندوق كبير، بجوار بعض الجثث في ميدان النهضة. وكان الأنكى صوت الإعلاميين وضيوفهم المعلقين علي الحدث البشع، والذي لم يخلُ من فرحة غامرة، كأنهم يعلقون على مباراةٍ لكرة القدم.
لم تكن المذبحة مفاجئة لي، خصوصا أنني دارس الانقلابات العسكرية، وأعرف جيداً أثمانها الباهظة. فتاريخ الانقلابات مليء بمثل هذه المذابح، سواء في أميركا اللاتينية أو في إفريقيا أو آسيا. وقد حذرت كثيرين من إمكانية وقوعها. أتذكر جيداً لقاءً جمعني ببعض شباب التيارات السياسية في أثناء الأزمة، وقلت لهم إن استمرار الاستقطاب وخطاب الكراهية سوف يفضي إلى مواجهةٍ دموية، فلم يكترث بعضهم. كما تحدثت مع قادةٍ في "الإخوان المسلمين"، وحاولت استكشاف ما إذا كانت لديهم خطة سياسية بديلة، إذا لم يحقق الاعتصام هدفه، فلم أسمع إلا كلاماً عاماً وشعارات فضفاضة. وقتها أدركت أن المذبحة قادمة.
سبقت المذبحة مجازر أخرى، وإن على نطاق أصغر، كما حدث أمام دار الحرس الجمهوري في الثامن من يوليو/ تموز 2013، ثم مذبحة طريق النصر أواخر الشهر نفسه، بعد التفويض الشهير الذي طالب به الجنرال عبد الفتاح السيسي جمهوره وقتها غطاءً للقتل. كما سبقتها أيضا مذبحة سياسية أخرى، تمثلت في انقلاب "3 يوليو" الذي أجهض أول تجربة ديمقراطية في مصر، وعلّق الدستور، وحلّ المؤسسات المنتخبة. فالانقلابات لا تنجح وتستقر إلا بثمن باهظ، يدفعه غالبا فصيل سياسي، يكون الضحية التي يأتي علي أعناقها الجنرالات إلى السلطة. وذلك بدليل أنه لم يجر تحقيق جاد في المذبحة حتى الآن، ولم تتم محاسبة المتورّطين فيها، ولم يقدّم أحدٌ منهم للعدالة، وفي الغالب لن يحدث في ظل النظام الحالي، فالمذبحة كانت بمثابة التدشين لحكمه، وتتويجه على عرش السلطة.
لم تكن المذبحة، على بشاعتها، المشكلة، خصوصا وقد سبقتها عملية شيطنةٍ، ونزع للأنسنة عن ضحاياها، تمهيداً لسفك دمائهم، وإنما كانت، فيما رافقها وتلاها من أحداثٍ كشف حجم الكراهية والاستقطاب الذي حدث في البلاد. فلا تزال صور المهللين والمنتشين بقتل المئات حاضرةً في الذهن، ولا تزال عبارات التحريض والتهليل والتبريك لما حدث مسجّلة صوتاً وصورة. أتذكّر جيداً جاري الذي تهلل عندما سمع خبر قتل مئات من أنصار الرئيس محمد مرسي، أو "بائع الفاكهة" الذي أقسم أنه سوف يوّزع الشربات علي، فرحاً بما حدث لهم. كنّا، ولا نزال، غارقين تحت وهم "النسيج الوطني"، وأننا "شعب متسامحٌ بطبعه" إلى آخر هذه الكليشيهات التي لا تمل الدولة والمجتمع من تكرارها كذباً وإقناعاً لأنفسهم بالطهارة والبراءة.
أصابتني مشاهدة جثث القتلى في مسجد الإيمان القريب من ميدان رابعة، ومشاهد حرق المعتصمين أحياء أمام جامعة القاهرة، بصدمةٍ عصبيةٍ تعرف برهاب الموت (panic attack) فكان عليّ مراجعة الطبيب الذي نصحني بضرورة الابتعاد عن البلاد، لأن الاستمرار قد يؤدي إلى تدهور صحتي. قررّت بعدها السفر إلى الخارج، ومنذئذ لا تزال مشاهد تلك المذابح حيّة في ذاكرتي، كلما حلّت ذكراها السنوية.
سارعت، بعد أن وضعت حقائب السفر، إلى فتح التلفاز، لأرى أسوأ مشهد في حياتي. أشخاص يُحرقون أحياء برصاص قوات الأمن المصرية أمام جامعة القاهرة، وهو كما عرفت لاحقاً رصاص محرّم دولياً، وبث مباشر للمذبحة من ميدان النهضة كانت تنقله فضائية "أون. تي. في"، وكانت وقتها لرجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، والذي عرفنا فيما بعد، وباعترافاته، أنه كان من أهم الممولين لحملة "تمرّد" بالتواطؤ مع الإمارات، ومن المخطّطين والمتورّطين في انقلاب "3 يوليو". أتذكر أيضا مشهد تلفيق تهمة امتلاك المعتصمين أسلحة، والذي استخدم حجة لفض الاعتصام، حيث تم وضع أسلحة وذخيرة حية في صندوق كبير، بجوار بعض الجثث في ميدان النهضة. وكان الأنكى صوت الإعلاميين وضيوفهم المعلقين علي الحدث البشع، والذي لم يخلُ من فرحة غامرة، كأنهم يعلقون على مباراةٍ لكرة القدم.
لم تكن المذبحة مفاجئة لي، خصوصا أنني دارس الانقلابات العسكرية، وأعرف جيداً أثمانها الباهظة. فتاريخ الانقلابات مليء بمثل هذه المذابح، سواء في أميركا اللاتينية أو في إفريقيا أو آسيا. وقد حذرت كثيرين من إمكانية وقوعها. أتذكر جيداً لقاءً جمعني ببعض شباب التيارات السياسية في أثناء الأزمة، وقلت لهم إن استمرار الاستقطاب وخطاب الكراهية سوف يفضي إلى مواجهةٍ دموية، فلم يكترث بعضهم. كما تحدثت مع قادةٍ في "الإخوان المسلمين"، وحاولت استكشاف ما إذا كانت لديهم خطة سياسية بديلة، إذا لم يحقق الاعتصام هدفه، فلم أسمع إلا كلاماً عاماً وشعارات فضفاضة. وقتها أدركت أن المذبحة قادمة.
سبقت المذبحة مجازر أخرى، وإن على نطاق أصغر، كما حدث أمام دار الحرس الجمهوري في الثامن من يوليو/ تموز 2013، ثم مذبحة طريق النصر أواخر الشهر نفسه، بعد التفويض الشهير الذي طالب به الجنرال عبد الفتاح السيسي جمهوره وقتها غطاءً للقتل. كما سبقتها أيضا مذبحة سياسية أخرى، تمثلت في انقلاب "3 يوليو" الذي أجهض أول تجربة ديمقراطية في مصر، وعلّق الدستور، وحلّ المؤسسات المنتخبة. فالانقلابات لا تنجح وتستقر إلا بثمن باهظ، يدفعه غالبا فصيل سياسي، يكون الضحية التي يأتي علي أعناقها الجنرالات إلى السلطة. وذلك بدليل أنه لم يجر تحقيق جاد في المذبحة حتى الآن، ولم تتم محاسبة المتورّطين فيها، ولم يقدّم أحدٌ منهم للعدالة، وفي الغالب لن يحدث في ظل النظام الحالي، فالمذبحة كانت بمثابة التدشين لحكمه، وتتويجه على عرش السلطة.
لم تكن المذبحة، على بشاعتها، المشكلة، خصوصا وقد سبقتها عملية شيطنةٍ، ونزع للأنسنة عن ضحاياها، تمهيداً لسفك دمائهم، وإنما كانت، فيما رافقها وتلاها من أحداثٍ كشف حجم الكراهية والاستقطاب الذي حدث في البلاد. فلا تزال صور المهللين والمنتشين بقتل المئات حاضرةً في الذهن، ولا تزال عبارات التحريض والتهليل والتبريك لما حدث مسجّلة صوتاً وصورة. أتذكّر جيداً جاري الذي تهلل عندما سمع خبر قتل مئات من أنصار الرئيس محمد مرسي، أو "بائع الفاكهة" الذي أقسم أنه سوف يوّزع الشربات علي، فرحاً بما حدث لهم. كنّا، ولا نزال، غارقين تحت وهم "النسيج الوطني"، وأننا "شعب متسامحٌ بطبعه" إلى آخر هذه الكليشيهات التي لا تمل الدولة والمجتمع من تكرارها كذباً وإقناعاً لأنفسهم بالطهارة والبراءة.
أصابتني مشاهدة جثث القتلى في مسجد الإيمان القريب من ميدان رابعة، ومشاهد حرق المعتصمين أحياء أمام جامعة القاهرة، بصدمةٍ عصبيةٍ تعرف برهاب الموت (panic attack) فكان عليّ مراجعة الطبيب الذي نصحني بضرورة الابتعاد عن البلاد، لأن الاستمرار قد يؤدي إلى تدهور صحتي. قررّت بعدها السفر إلى الخارج، ومنذئذ لا تزال مشاهد تلك المذابح حيّة في ذاكرتي، كلما حلّت ذكراها السنوية.