14 نوفمبر 2024
في جدلية النصر والهزيمة
منذ أيام سون تزو في القرن السادس قبل الميلاد، ومروراً بكلاوزفيتز ولينين وأندريه بوفر وليدل هارت، وحتى يومنا هذا، ما برحت فكرة الانتصار تفتقر إلى مفهوم واحد محدّد المعالم، يميز الخيط الأسود من الخيط الأبيض، ويمنع تداخلهما.
وإذا كان ثمة إجماع من غالبية المفكرين المعاصرين على أن الحرب امتداد للسياسة، وشكل من أشكالها، يمارس بأشكال عنيفة، فإن السؤال ما زال مستمراً حول وجوب إعادة صوغ فكرة الانتصار، ونقلها من مجال الحسم العسكري وعلم الحرب إلى حيز صراع الإرادات وعلم السياسة، بحيث لا يتوقف مفهوم الانتصار على إنجاز الهدف المعلن، أو المستتر، في أحيانٍ كثيرة، وإنما أيضاً يتعلق بالقدرة على المحافظة على هذا الإنجاز، بل وبإرغام الخصم على قبوله.
على أن هذه الموضوعة تتجاوز هذا الإطار النظري، لتحمل، في الصعيد العملي، مفارقات كبرى، فما نعتقد أنه انتصار سرعان ما يتحول هزيمة، والعكس صحيح تماماً، سواء على مستوى الحدث نفسه، أم ضمن نطاق أبطاله المتوّجين بأكاليل الغار، كما تختلط ادعاءات النصر من الخصوم للجولة نفسها، فكل يدّعي أنه صاحبها والفائز الأوحد بها.
في الحرب العالمية الثانية، قادت بريطانيا التي كانت تعرف بأنها الأمبرطورية التي لا تغيب عنها الشمس الحلفاء في المعركة ضد ألمانيا ودول المحور، وانتصرت فيها. لكن بطل الحرب بلا منازع، ونستون تشرشل، هُزم هزيمة ساحقة في الانتخابات التي أعقبتها في بلاده بريطانيا، وفقد رئاسة الوزراء، أما بريطانيا نفسها فقد أفلت شمس امبرطوريتها، وكادت أن تغيب.
وفي الحروب العربية الإسرائيلية، ثمة إشكالية كُبرى في تحديد المنتصر من المهزوم في كل مرة ، فكلا الطرفين يوحيان لجمهورهما أنه انتصر، أو على الأقل يسعى جهده إلى إخفاء بعض من معالم هزيمته. في حرب 1948، وعلى الرغم من مرارة النكبة التي حلت بنا، إلا أن كتب التاريخ العربية لا تتحدّث عنها قدر حديثها عن الإنجازات التي تحققت في بعض معاركها الفرعية، مثل حصار الفالوجة أو معركة جنين والقدس والقسطل، بحيث يكاد القارئ أن يتخيل أن هذا الجزء المضيء حل مكان ظلام النكبة. وفي حرب يونيو/ حزيران 1967، اجتاح الجيش الإسرائيلي الأراضي العربية في غضون ساعات، وجلس وزير الدفاع الصهيوني، موشيه دايان، طويلاً بالقرب من هاتفه، منتظراً أن يسمع عبره صوت استسلام الزعماء العرب، لكن ما سمعه كان شيئاً آخر، فقد سمع عبر وكالات الأنباء، اللاءات العربية في قمة الخرطوم، لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات. وأصبحت الأمة العربية تردّد شعار جمال عبدالناصر أن "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة ". وتراجعت النزاعات الداخلية، وسادت أجواء من التضامن العربي، ونمت المقاومة الفلسطينية وقويت شوكتها. وبذلك، بدت الهزيمة وكأنها في النزع الأخير من الليل.
في حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973، انقلبت الآية، وتحول النصر البارز وعبور
قناة السويس إلى هزيمة كبرى، بعد زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات القدس المحتلة، وتوقيعه اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وهي الاتفاقية التي مازالت آثارها السلبية تنخر في الجسد العربي. هنا، أجهضت التراجعات السياسية الانتصار العسكري، وهو ما يشابه ما حدث في حرب غزة 2014، حين صمدت المقاومة، ولم يتمكّن الجيش الإسرائيلي من التقدم، على الرغم من قوة التدمير والنيران الهائلة التي يتمتع بها، ليأتي حصار النظام المصري، وموقف السلطة الوطنية الفلسطينية المتخاذل، والتفات الوضع العربي إلى حروبه الداخلية، ليتم إجهاض هذا الانتصار، ومنعه من تحقيق أي مكتسبات، خصوصاً فيما يتعلق برفع الحصار وإعادة العمران.
في حرب لبنان 1982، تمكّنت القوات الإسرائيلية من اجتياح لبنان، واحتلال عاصمة عربية، وفرضت على لبنان رئيس جمهورية، أحضرته على ظهر دبابة إسرائيلية، وأخرجت المقاومة الفلسطينية بحراً، وعبر البواخر، من بيروت إلى المنافي، وأبرمت مع الحكومة اللبنانية اتفاق 17 أيار، وهو ثاني اتفاق مع دولة عربية بعد مصر، وللحظات ظهر أرييل شارون وكأنه ملك إسرائيل المتوج.
ولأن دوام الحال من المحال، قُتل بشير الجميل، قبل أن يتبوأ كرسي الرئاسة، وأُلغي اتفاق 17 أيار، واستقال رئيس حكومة العدو مناحيم بيغن، كما استقال وزير الخارجية الأميركي، ألكسندر هيغ، وشكلت لجنة تحقيق لشارون. أما المقاومة فتصاعدت عملياتها، ودخلت قوى جديدة الصراع المسلح ضد العدو الصهيوني، وبعد أن كاد نفر من أهل الجنوب اللبناني أن يقف ضد المقاومة الفلسطينية قبل حرب 1982، توحد كل الجنوب ضد الصهاينة وعملائهم، ما أدى إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من كل لبنان، وانهار الشريط الحدودي الذي أقامه لعملائه منذ سنة 1976. وغدت منظمة التحرير الفلسطينية أقوى سياسياً، واستحال ياسر عرفات قائداً تاريخياً للشعب الفلسطيني، وأعاد جزءاً من قواته إلى لبنان. وبعد سنوات، التهبت الضفة الغربية بانتفاضة عارمة، عوّضت على منظمة التحرير كل ما فقدته في حرب 1982، وزادت عليه لتسجل إنجازاً غير مسبوق في تاريخ الشعب الفلسطيني، لكن هذا الإنجاز العظيم ما لبث أن ضاع على موائد اتفاق أوسلو الكارثي.
تعلمنا هذه الحوادث أن التاريخ ليس نقطة واحدة، بقدر ما هو مجموعة من الدوائر تكبر وتتفاعل، وأن ما يُحسب نصراً قد يتم إجهاضه بفعل سياسات خاطئة تليه، وأن ما يُعتبر هزيمةً قد يشكل دافعاً نحو نصر كبير يعقبها. وحسبنا، هنا، أن نستذكر ما قاله المارشال فوش "المعركة التي ينتصر بها الإنسان هي التي يرفض فيها الاعتراف بالهزيمة"، لأن رفض الاستسلام للهزيمة هو الخطوة الأولى في صنع النصر المقبل، والأيام دول، والحرب سجال، كما قالت العرب قديماً.
وإذا كان ثمة إجماع من غالبية المفكرين المعاصرين على أن الحرب امتداد للسياسة، وشكل من أشكالها، يمارس بأشكال عنيفة، فإن السؤال ما زال مستمراً حول وجوب إعادة صوغ فكرة الانتصار، ونقلها من مجال الحسم العسكري وعلم الحرب إلى حيز صراع الإرادات وعلم السياسة، بحيث لا يتوقف مفهوم الانتصار على إنجاز الهدف المعلن، أو المستتر، في أحيانٍ كثيرة، وإنما أيضاً يتعلق بالقدرة على المحافظة على هذا الإنجاز، بل وبإرغام الخصم على قبوله.
على أن هذه الموضوعة تتجاوز هذا الإطار النظري، لتحمل، في الصعيد العملي، مفارقات كبرى، فما نعتقد أنه انتصار سرعان ما يتحول هزيمة، والعكس صحيح تماماً، سواء على مستوى الحدث نفسه، أم ضمن نطاق أبطاله المتوّجين بأكاليل الغار، كما تختلط ادعاءات النصر من الخصوم للجولة نفسها، فكل يدّعي أنه صاحبها والفائز الأوحد بها.
في الحرب العالمية الثانية، قادت بريطانيا التي كانت تعرف بأنها الأمبرطورية التي لا تغيب عنها الشمس الحلفاء في المعركة ضد ألمانيا ودول المحور، وانتصرت فيها. لكن بطل الحرب بلا منازع، ونستون تشرشل، هُزم هزيمة ساحقة في الانتخابات التي أعقبتها في بلاده بريطانيا، وفقد رئاسة الوزراء، أما بريطانيا نفسها فقد أفلت شمس امبرطوريتها، وكادت أن تغيب.
وفي الحروب العربية الإسرائيلية، ثمة إشكالية كُبرى في تحديد المنتصر من المهزوم في كل مرة ، فكلا الطرفين يوحيان لجمهورهما أنه انتصر، أو على الأقل يسعى جهده إلى إخفاء بعض من معالم هزيمته. في حرب 1948، وعلى الرغم من مرارة النكبة التي حلت بنا، إلا أن كتب التاريخ العربية لا تتحدّث عنها قدر حديثها عن الإنجازات التي تحققت في بعض معاركها الفرعية، مثل حصار الفالوجة أو معركة جنين والقدس والقسطل، بحيث يكاد القارئ أن يتخيل أن هذا الجزء المضيء حل مكان ظلام النكبة. وفي حرب يونيو/ حزيران 1967، اجتاح الجيش الإسرائيلي الأراضي العربية في غضون ساعات، وجلس وزير الدفاع الصهيوني، موشيه دايان، طويلاً بالقرب من هاتفه، منتظراً أن يسمع عبره صوت استسلام الزعماء العرب، لكن ما سمعه كان شيئاً آخر، فقد سمع عبر وكالات الأنباء، اللاءات العربية في قمة الخرطوم، لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات. وأصبحت الأمة العربية تردّد شعار جمال عبدالناصر أن "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة ". وتراجعت النزاعات الداخلية، وسادت أجواء من التضامن العربي، ونمت المقاومة الفلسطينية وقويت شوكتها. وبذلك، بدت الهزيمة وكأنها في النزع الأخير من الليل.
في حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973، انقلبت الآية، وتحول النصر البارز وعبور
في حرب لبنان 1982، تمكّنت القوات الإسرائيلية من اجتياح لبنان، واحتلال عاصمة عربية، وفرضت على لبنان رئيس جمهورية، أحضرته على ظهر دبابة إسرائيلية، وأخرجت المقاومة الفلسطينية بحراً، وعبر البواخر، من بيروت إلى المنافي، وأبرمت مع الحكومة اللبنانية اتفاق 17 أيار، وهو ثاني اتفاق مع دولة عربية بعد مصر، وللحظات ظهر أرييل شارون وكأنه ملك إسرائيل المتوج.
ولأن دوام الحال من المحال، قُتل بشير الجميل، قبل أن يتبوأ كرسي الرئاسة، وأُلغي اتفاق 17 أيار، واستقال رئيس حكومة العدو مناحيم بيغن، كما استقال وزير الخارجية الأميركي، ألكسندر هيغ، وشكلت لجنة تحقيق لشارون. أما المقاومة فتصاعدت عملياتها، ودخلت قوى جديدة الصراع المسلح ضد العدو الصهيوني، وبعد أن كاد نفر من أهل الجنوب اللبناني أن يقف ضد المقاومة الفلسطينية قبل حرب 1982، توحد كل الجنوب ضد الصهاينة وعملائهم، ما أدى إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من كل لبنان، وانهار الشريط الحدودي الذي أقامه لعملائه منذ سنة 1976. وغدت منظمة التحرير الفلسطينية أقوى سياسياً، واستحال ياسر عرفات قائداً تاريخياً للشعب الفلسطيني، وأعاد جزءاً من قواته إلى لبنان. وبعد سنوات، التهبت الضفة الغربية بانتفاضة عارمة، عوّضت على منظمة التحرير كل ما فقدته في حرب 1982، وزادت عليه لتسجل إنجازاً غير مسبوق في تاريخ الشعب الفلسطيني، لكن هذا الإنجاز العظيم ما لبث أن ضاع على موائد اتفاق أوسلو الكارثي.
تعلمنا هذه الحوادث أن التاريخ ليس نقطة واحدة، بقدر ما هو مجموعة من الدوائر تكبر وتتفاعل، وأن ما يُحسب نصراً قد يتم إجهاضه بفعل سياسات خاطئة تليه، وأن ما يُعتبر هزيمةً قد يشكل دافعاً نحو نصر كبير يعقبها. وحسبنا، هنا، أن نستذكر ما قاله المارشال فوش "المعركة التي ينتصر بها الإنسان هي التي يرفض فيها الاعتراف بالهزيمة"، لأن رفض الاستسلام للهزيمة هو الخطوة الأولى في صنع النصر المقبل، والأيام دول، والحرب سجال، كما قالت العرب قديماً.