في تونس.. جيش عربي آخر

16 مايو 2019
+ الخط -
الجيش في الدول الديمقراطية المتقدّمة مؤسّسة عسكريّة، تتكوّن من أشخاص على درجة عالية من الكفاءة في إدارة الأزمات الأمنية والحروب، والتصدّي للمخاطر الداخلية والخارجية التي تهدّد السلم الاجتماعي، ووحدة البلاد وسيادتها. وتخضع هذه المؤسّسة لسلطة مدنيّة، ولا تتدخّل في الشأن السّياسي، بل تضطلع بأدوار استراتيجية أخرى، أهمّها حماية الحدود، وحراسة المؤسّسات السياديّة والإداريّة، وحفظ الممتلكات العامّة والخاصّة، وضمان الاستقرار الأمني والسلم الأهلي، ومواجهة الخطر الخارجي، وتلتزم الحياد إزاء الفرقاء السياسيين، وتُعنى بتوفير الظروف المناسبة للتنافس السلمي على السلطة، والانحياز إلى القيم الوطنيّة العليا وخدمة الوطن والمواطن على جهة الإطلاق، بقطع النظر عن انتمائه الحزبي أو الديني أو الجهوي أو الطبقي أو الأيديولوجي. وقارئ تاريخ العرب الحديث يتبيّن له أنّ الجيش، في عصر ما تسمّى دولة الاستقلال، لم يكتف بالعمل على توفير الأمن الداخلي والخارجي وإدارة الأزمات وحالات الطوارئ، بل تجاوز ذلك إلى الوصاية على الناس، وإلى الهيمنة على المشهد السياسي، ومصادرة التعدديّة، ومساندة الأنظمة السلطويّة، وحراسة الديكتاتوريّة. والمتابع للمشهد الاحتجاجي العربي الراهن يتبيّن أنّ الجيش لم يحافظ على الحياديّة، وتلبّس بالسياسة، وتدخّل في صياغة متنها وهوامشها، وفي بلورة جوهرها ومتعلّقاتها. والأمر خلاف ذلك في تونس.
يتبيّن الناظر في سيرة المؤسسة العسكرية في تونس أنّها اضطلعت بمهمّة تحقيق الاستقرار في البلاد منذ الاستقلال، وساهمت في ضمان استمرار المؤسسات السيادية، ولم تنخرط في الشأن السياسي، ولم تهيمن على المشهدين، الإداري والاقتصادي، بل ظلّت هيكلا دفاعيا وجهازا وقائيا مهمّا وقف إلى جانب التونسيين في حراسة الحدود ومكافحة التهريب ومواجهة الكوارث الطبيعية، وساعد في القيام بأعمال تنموية. والثابت أنّ جهاز الجيش كان يُعاني، في عهدي الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي، من تهميش منهجي تقصّده النظام الحاكم، فحدّد من صلاحيّات المؤسّسة العسكريّة، ومنع منظوريها من تولّي مناصب قياديّة أو خطط مفصليّة في الدولة، وحال دونهم والانخراط في منظمات المجتمع المدني. وكان المراد تحجيم الدور المجتمعي للجيش، والنأي به عن السياسة، مخافة أن يستغلّ قوته المسلّحة وشعبيّته لدى الناس في تغيير نظام الحكم. وتعامل النظام السلطويّ الحاكم، في عهد بورقيبة وبن علي، بحذر 
وبراغماتية مع الجيش، ووظّفه للقيام بأدوار محدودةٍ معلومةٍ، في مقدّمتها الأعمال الدفاعية والإغاثيّة والإنمائيّة ومواجهة بعض الأعمال الإرهابية، أو حركات التمرّد والاحتجاج الشعبي ضدّ النظام الشمولي، من حين إلى آخر. ومع اندلاع الحراك الاحتجاجي الشعبي سنة 2011، وامتداده على التدريج، ليشمل كلّ محافظات الجمهورية، تخلّى الجيش التونسي سريعا عن قائده الجنرال زين العابدين بن علي، وانحاز إلى الثورة، لأنّه آمن بشرعية مطالبها وصدْقية شعاراتها، ولأنّه كان من ضحايا الدولة الاستبداديّة، وكان يطمح إلى تغييرٍ في هرم السلطة، يمكّن المواطنين من اختيار مَن يحكمهم، ويعيد للجيش الاعتبار، ويسمح له بتحسين أوضاعه المهنية، وتطوير قدراته التقنية. ولم يغتنم الجيش التونسي الموجة الاحتجاجية العارمة، وهروب الرئيس المخلوع بن علي، ليستلم مقاليد الحكم، بل رفض الانخراط في معترك الصراع على السلطة، والارتهان لطرف حزبي على حساب آخر، والتزم الحياد تجاه كلّ مكوّنات المشهد السياسي، مقدّما مبدأ احترام الدستور، والمحافظة على وحدة البلاد واستقرارها على مطلب التهافت على السلطة، والبحث عن مصالح قطاعيّة ضيّقة. كما جرت محاولاتٌ لإدماج الجيش في الشأن السياسي بعد الثورة، وتعالت أصواتٌ لدعوته لتولّي الحكم وإدارة البلاد، خصوصا بعد ما شهدته تونس من اضطرابات، وما عرفته من عمليات اغتيالٍ دامية استهدفت المدنيين والعسكريين على السواء (2013)، غير أن مؤسسة الجيش لم تستجب لتلك الدعوات.
وبَدَلَ عسكرة السياسة، والوصاية على الناس، والاستيلاء على الحكم، تولّى الجيش التونسي، بعد الثورة، مهام حيويّة عديدة، لعلّ أبرزها حراسة السلم الاجتماعي، وحماية الممتلكات العامّة والخاصّة، وتأمين التداول السلمي على السلطة، وضمان استمراريّة الدولة المدنية، ومواجهة الجماعات الإرهابيّة المسلّحة، ومخاطر التهريب والجريمة المنظّمة. وبرز في موقع القوّة المحايدة/الضامنة لاستمرار المشروع الديمقراطي الوليد في تونس. وشهدت المؤسّسة العسكريّة تحوّلا نوعيّا بعد الثورة، فأعيد لها الاعتبار، وأصبحت ذات تمثيليّةٍ معتبرةٍ في مؤسّسات الدولة (مؤسسة الرئاسة، الهيئات الاستشاريّة لدى الحكومة ومجلس نواب الشعب...). وتعزّز حضورها في المجتمع المدني والمشهد الإعلامي، وهو ما مكّنها من الانفتاح على الشارع التونسي، والتفاعل مع مستجدّاته. وعرف جهاز القوّات المسلّحة انتقالا في مستوى نظامه 
الإداري، وسياسات صنع القرار داخله، فانتقل من مرحلة مركزة القرار بيد شخصٍ، أو زعيم بعينه، قبل الثورة، إلى مرحلة اتخاذ القرار، بناء على تصوّرات تشاركيّة ينتجها التشاور والتواصل بين الهيئات العسكريّة والجهات الحكوميّة ومكوّنات المجتمع المدني. ولكنّ ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أنّ الجيش التونسي يبقى في حاجةٍ إلى تعزيز قدراته العسكريّة وإمكاناته اللوجستيّة وموارده الماليّة ومصادره الاستخباريّة، حتى يكون قادرا على مواجهة المخاطر الداخليّة والخارجيّة التي تنذر بإرباك المسار الديمقراطي، خصوصا في ظلّ تزايد التهديدات الإقليمية (الحرب في ليبيا)، وصعود العسكر إلى الحكم في أكثر من بلد عربي، واستقواء فلول النظام القديم بالخارج، بغرض وضع حدّ لموجة الدمقرطة في تونس والعالم العربي.
يُمكن القول، ختاما، إنّ الجيش التونسي ركيزة مهمّة من ركائز استمرار الدولة المدنيّة في تاريخ تونس الحديث، اضطلع عقودا بأدوار دفاعيّة، وإغاثيّة، وتنمويّة، ولزم مع اندلاع الثورة سياسة ضبط النفس، وزهد، على خلاف جيوش عربية، في السلطة، واختار مرافقة المرحلة الانتقالية بطريقةٍ احترافية، جنّبت البلاد مخاطر الاحتراب على السلطة، والانزلاق نحو الفوضى. وزاد ذلك من شعبيّة الجيش، حتى أنّ 81% من التونسيّين يثقون، إلى حدّ كبير، في المؤسّسة العسكريّة في بلادهم، بحسب المؤشّر العربي الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2018). ومن المهمّ الإشارة هنا إلى أنّ وجود مجتمع مدنيّ تونسيّ حي، ونخب سياسيّة تقدّمية في الحكم أو المعارضة بعد الثورة، ساهم في تعزيز حياد الجيش، وعدم تجاوزه صلاحيّاته الدستوريّة.
لماذا لا تنفتح معظم الجيوش العربية على منوال الجيش التونسي؟
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.