31 أكتوبر 2024
في تضاريس المشهد المغربي العام
عندما توضع تحوّلات المغرب الأساسية تحت المجهر، ويبحث المختصون عن امتداداتها في مختلف المجالات، غالباً ما تُلاحظ هيمنة العنصر السياسي والمؤسساتي. وهكذا يقفز الإشكال الدستوري إلى الواجهة، لأن أغلبية المشتغلين على هذا الموضوع يسكنهم هاجس الصلاحيات وفصل السلطات ومصداقية المؤسسات وفعاليتها.
وإذا كان النزوع إلى تغذية هذا الهاجس وتكريسه يعتبر مشروعاً، ونابعاً من الرغبة في تحديث الدولة المغربية وعقلنة مؤسساتها، وتمكينها من مقوّمات الاستقرار والاشتغال الجيد، بما في ذلك تمتيعها بوسائل إنتاج القيم الديمقراطية، فإن عدم الالتزام بمساءلةٍ عميقةٍ وفكريةٍ للفعل السياسي، ولطريقة اشتغال المجتمع، والقيم التي يقبلها أو تلك التي يرفضها، ولطبيعة النسيج الاقتصادي الوطني، سيشكل دائماً عائقا بنيوياً ونفسياً وقصوراً معرفياً، وسبباً رئيساً سيرغمنا على الدوران في الدائرة المغلقة نفسها، فيما نحن نسعى إلى التحرّر من أغلال هذه الدائرة وإكراهاتها، ما يضع على عاتق النخب السياسية والفكرية، المتفاعلة بشكل إيجابي مع محيطها، مسؤوليةً تاريخيةً لطرح الأسئلة الجوهرية والأساسية التي يفرضها مغرب الألفية الثالثة، من دون نفاق فكري أو افتراء على التاريخ، إرضاء لمصلحة من المصالح.
من هنا، تذهب مختلف الكتابات السياسية والتعليقات الإعلامية إلى ضرورة أن تمنح الأحزاب السياسية الفرصة لانبثاق نخب جديدة قادرة على المبادرة، خارج تأثير أي هالة أو قداسة
مصطنعة، نخب مترفعة عن سباق المسافات القصيرة في حروب المصالح الشخصية، ومتحرّرة من أيديولوجيا المؤامرة ولغة التكفير والتخوين. فمن شأن هذا السلوك أن يرتقي بالفاعل السياسي (الحزب)، وأن يجعل منه قوة اقتراحية فعلية، وأداة ضاغطة يُنصت إليها ويؤخذ برأيها، وهذا هو المدخل لكسب ثقة الشارع، وإعادة الاعتبار إلى القيم السياسية، والأفكار الصانعة للمشاريع، والراسمة مسالك الإصلاحات الديمقراطية والمصالحات الكبرى والمُهيكلة. وهذا ما سيؤسس أيضاً لقطيعةٍ حاسمةٍ ومفصليةٍ مع استراتيجية التبرير واتهام الآخر ورفضه، ونعته بكل الصفات التي تنم عن اندحار الخطاب السياسي وانحداره، سواء كان هذا الآخر مجسّدا في الدولة، أو في باقي الأحزاب المكوّنة للسوق السياسي.
في هذا السياق، يحضر فرانسوا هولاند، في أقواله عندما كان رئيس الحزب الاشتراكي الفرنسي، وتضمّنها كتاب "واجب الحقيقة"، وهو حوار، أجراه معه إدوي بلونيل. يقول هولاند، قبل أن يصل إلى قصر الإليزيه "ما يهم هو المشروع السياسي. الأشخاص مهمون. لكن، لا يجب أن نترك أنفسنا ننساق وراء تنافس الأشخاص. لا يجب أن نعتقد أن الموهبة وحدها كافية. ثقافة ديمقراطية أصيلة لا تختزل في اختيار مرشح أو مرشحين. المشروع والتعاقد والسياسة هي العناصر التي تصنع الديناميكية، والجماعة هي التي تصنع الفرد. منذ سنين، شيّد كل معسكر انتصاره على رفض الآخر. كان ينبغي رفض الرئيس جيسكار ديستان، لأنه رفض أمس الرئيس ديغول، ويرفض شيراك لأنه كاذب، ويرفض ساركوزي لأنه سيشكل خطرا غدا. يجب أن نكون قادرين على حمل الطموح المشترك، لأنه عندما ننتصر يغيب الخصوم، ونجد أنفسنا في مواجهة أنفسنا. لسنا بصدد ثقافة للمقاومة، حيث يقتصر الأمر على تجنب الأسوأ. ما نريده هو اقتراح الأحسن، لأن هذا ما سيمكّننا من الاستمرار، ليس من أجل أن ندوم، ولكن لكي ننجح".
تأسيساً على ما سبق، من المهم التأكيد على أنه، في سياق اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي، كالسياق المغربي، يجب أن نعتبر الآتي من الاستحقاقات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والهوياتية والروحية والسيادية والجيو-ستراتجية المحكّ الحقيقي لكل الإرادات والأطراف.
تشكل الوثيقة الدستورية ومسارات تطبيق بنودها ومراحلها في حياة أي دولةٍ أو مجتمعٍ حدثاً
مهماً، لأن المسألة تتعلق بتعاقدٍ مكتوبٍ بين السلطة والشعب، لكن هذا الحدث، بقدر ما هو أساسي وضروري، يمثل أمرا عاديا ومحطةً طبيعيةً في بناء دولة المؤسسات والحقوق والقوانين. وسيكون التفاعل مع المواعيد المقبلة ومواجهة التحديات التي تنتظر المغرب الترجمة الملموسة والإجراءات العملية للدستور الحالي، على الرغم من الجدل الذي أثير بشأنه، والمواقف التي سُجلت إزاء القوانين التنظيمية المرتبطة بتطبيق مقتضياته.
ليس الأمر سهلاً للغاية، ولا يبدو تمريناً عادياً، كون الهندسة والفلسفة والفصول واللغة والصياغة التي تشكل جسد الدستور وروحه لن تمتلك وجودها المادي، وفعاليتها وقوتها، إذا لم تكن هناك بيئة ملائمة وشروط مناخية مناسبة، وتضاريس ليست وعرة، وتربة خصبة، طبعا بالمعنى السياسي والسوسيولوجي. وإذا لم تنبثق نخبٌ جديدةٌ وممارساتٌ حزبيةٌ بديلةٌ ووجوه برلمانية ذات مصداقية وجاذبية أخلاقية وفكرية وسياسية. وهنا على الفاعل الحزبي أن يتسلح بالجرأة والشهامة، كأن يتخذ قراراتٍ قد يشعر بأنها مؤلمة، لكنها ضرورية لضمان اشتغالٍ سليم وجيد للآلة الحزبية، وأول هذه القرارات عدم تزكية الذين لا قيمة مضافة لهم، ووضعهم في الواجهة، لمجرد أنهم يحققون إشباعاً نفسياً وذهنياً لقادتهم. ولن يغفر التاريخ والوطن لأي حزبٍ يشذّ عن هذه القاعدة، ولن تصمد مرافعات التبرير الانتخابي والتعليل السياسي أمام رياح التغيير وإرادات التجديد.
أخطر آفةٍ يمكن أن تصيب مجتمعاً أن يتحوّل فيه الفساد، بكل ألوانه وأطيافه، إلى مصدر افتخار اجتماعي، وأن تستشري هذه الآفة وتستفحل، من دون أن تتعرض للرّدع والمحاربة وتطويق المسؤولين عنها بالمحاسبة والمساءلة. والأدهى أن تصبح محاربة الفساد مجرّد شعارٍ مرصود للتوظيفات الإيديولوجية والمعارك المحشوّة بجرعةٍ عاليةٍ من الديماغوجية والحسابات السياسيوية، وإلى آليةٍ بديلةٍ لإنتاج فسادٍ من نوع جديد، يستثمر في التبرير وتبرئة الذات السياسية.
من هنا، تذهب مختلف الكتابات السياسية والتعليقات الإعلامية إلى ضرورة أن تمنح الأحزاب السياسية الفرصة لانبثاق نخب جديدة قادرة على المبادرة، خارج تأثير أي هالة أو قداسة
في هذا السياق، يحضر فرانسوا هولاند، في أقواله عندما كان رئيس الحزب الاشتراكي الفرنسي، وتضمّنها كتاب "واجب الحقيقة"، وهو حوار، أجراه معه إدوي بلونيل. يقول هولاند، قبل أن يصل إلى قصر الإليزيه "ما يهم هو المشروع السياسي. الأشخاص مهمون. لكن، لا يجب أن نترك أنفسنا ننساق وراء تنافس الأشخاص. لا يجب أن نعتقد أن الموهبة وحدها كافية. ثقافة ديمقراطية أصيلة لا تختزل في اختيار مرشح أو مرشحين. المشروع والتعاقد والسياسة هي العناصر التي تصنع الديناميكية، والجماعة هي التي تصنع الفرد. منذ سنين، شيّد كل معسكر انتصاره على رفض الآخر. كان ينبغي رفض الرئيس جيسكار ديستان، لأنه رفض أمس الرئيس ديغول، ويرفض شيراك لأنه كاذب، ويرفض ساركوزي لأنه سيشكل خطرا غدا. يجب أن نكون قادرين على حمل الطموح المشترك، لأنه عندما ننتصر يغيب الخصوم، ونجد أنفسنا في مواجهة أنفسنا. لسنا بصدد ثقافة للمقاومة، حيث يقتصر الأمر على تجنب الأسوأ. ما نريده هو اقتراح الأحسن، لأن هذا ما سيمكّننا من الاستمرار، ليس من أجل أن ندوم، ولكن لكي ننجح".
تأسيساً على ما سبق، من المهم التأكيد على أنه، في سياق اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي، كالسياق المغربي، يجب أن نعتبر الآتي من الاستحقاقات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والهوياتية والروحية والسيادية والجيو-ستراتجية المحكّ الحقيقي لكل الإرادات والأطراف.
تشكل الوثيقة الدستورية ومسارات تطبيق بنودها ومراحلها في حياة أي دولةٍ أو مجتمعٍ حدثاً
ليس الأمر سهلاً للغاية، ولا يبدو تمريناً عادياً، كون الهندسة والفلسفة والفصول واللغة والصياغة التي تشكل جسد الدستور وروحه لن تمتلك وجودها المادي، وفعاليتها وقوتها، إذا لم تكن هناك بيئة ملائمة وشروط مناخية مناسبة، وتضاريس ليست وعرة، وتربة خصبة، طبعا بالمعنى السياسي والسوسيولوجي. وإذا لم تنبثق نخبٌ جديدةٌ وممارساتٌ حزبيةٌ بديلةٌ ووجوه برلمانية ذات مصداقية وجاذبية أخلاقية وفكرية وسياسية. وهنا على الفاعل الحزبي أن يتسلح بالجرأة والشهامة، كأن يتخذ قراراتٍ قد يشعر بأنها مؤلمة، لكنها ضرورية لضمان اشتغالٍ سليم وجيد للآلة الحزبية، وأول هذه القرارات عدم تزكية الذين لا قيمة مضافة لهم، ووضعهم في الواجهة، لمجرد أنهم يحققون إشباعاً نفسياً وذهنياً لقادتهم. ولن يغفر التاريخ والوطن لأي حزبٍ يشذّ عن هذه القاعدة، ولن تصمد مرافعات التبرير الانتخابي والتعليل السياسي أمام رياح التغيير وإرادات التجديد.
أخطر آفةٍ يمكن أن تصيب مجتمعاً أن يتحوّل فيه الفساد، بكل ألوانه وأطيافه، إلى مصدر افتخار اجتماعي، وأن تستشري هذه الآفة وتستفحل، من دون أن تتعرض للرّدع والمحاربة وتطويق المسؤولين عنها بالمحاسبة والمساءلة. والأدهى أن تصبح محاربة الفساد مجرّد شعارٍ مرصود للتوظيفات الإيديولوجية والمعارك المحشوّة بجرعةٍ عاليةٍ من الديماغوجية والحسابات السياسيوية، وإلى آليةٍ بديلةٍ لإنتاج فسادٍ من نوع جديد، يستثمر في التبرير وتبرئة الذات السياسية.