في تذكّر أبو الكلام آزاد

05 يوليو 2016

أبو الكلام أزاد مع غاندي في بومباي (Getty)

+ الخط -
قلّما عرفته النخب العربية في مرحلته، وما تلاه من مراحل إلى يومنا هذا، على الرغم من أنه أحد الثالوث المؤسس لدولة الهند الحديثة: غاندي، جواهر لال نهرو، وهو، أي محي الدين أحمد بن خير الدين، الملقب بـأبي الكلام آزاد، (ومعناه الخطيب المفوّه الحر) الذي ولد في مكة المكرمة في 1888 من أم عربية، واصطحبه معه والده الغني إلى الهند وهو صغير، ليبدأ، في ما بعد، حياةً صوفيةً إسلاميةً، فرضتها عليه تقاليد العائلة المحافظة، وعبر مُدرّسين مختصّين، عيّنهم الوالد بنفسه لتدريس ابنه في المنزل. وسرعان ما فلت أبو الكلام من هذا النظام التعليمي الإجباري للعلوم الدينية، ليدرس على نفسه اللغات الأردية والإنجليزية والفارسية والتركية، ويتضلع منها جميعاً، قراءة وكتابة. وليبدأ بعدها أيضاً، ببرامج قراءاتٍ ذاتيةٍ متتابعة لمختلف صنوف المعارف والعلوم الإنسانية والسياسة والتاريخ... قبل أن ينخرط في الحياة السياسية وصراعاتها ونضالاتها الكفاحية الشرسة في بلدٍ يحتله الاستعمار البريطاني من أقصاه إلى أقصاه؛ ويعمل هذا الاستعمار على تقسيمه وشرذمة شعبه؛ فسُجن مولانا آزاد مراتٍ، وهُدّد بالتصفية الجسدية، لكنه ظل عنيداً مثابراً على خطّ تحرير بلده حتى نيل الاستقلال في 1947، وفي ما بعد هذا الاستقلال أيضاً، حيث فُجع آزاد به، كونه قام على تقسيم الهند إلى دولتين دينيتين: هندوسية وإسلامية، لكنه ظل يؤمن أن هذا التقسيم لن يعيش طويلاً، وأن البلاد سرعان ما ستعود إلى وحدتها، وعلى قاعدة الدولة القومية الوطنية الهندية الجامعة والمنيعة.
إذن، قاوم مولانا أبو الكلام آزاد تقسيم شبه القارة الهندية، وسعى، وهو المسلم الملتزم بتعاليم الدين الحنيف، إلى بناء إيديولوجيا قومية هندية جامعة للهندوس والمسلمين، واعتبار الدين مسألة فلسفةٍ إيمانيةٍ فرديةٍ، لا علاقة لها بالقومية وعناصر تشكّلها.
ومع أنه بدأ حياته السياسية ناشطاً في منظمةٍ سرية تدعى يوغانتر، وهي جماعة متشدّدة، قامت بُعيد تقسيم البنغال في 1905، لكنه سرعان ما تحوّل عنها إلى تبنّي تيار الوحدة الإسلامية في البلاد. ولكن، آلية لوضع إيديولوجيا قومية مناهضة للاستعمار، ولاسيما بين المسلمين. وكان هذا التحوّل واضحاً منذ تأسيسه مجلته النهضوية "الهلال" في 1912، وهي مجلة ليبرالية دستورية ذات لفح قوموي هندي علماني بارز. وصار الرجل مقتنعاً بأن تيار الوحدة الإسلامية لم يعد مؤثراً في ظل التحوّلات السياسية والاجتماعية والثقافية المتغيّرة التي يشهدها بلد ضخم كالهند، وأنَّ نظاماً سياسياً جديداً، بالتالي، بدأت بوادره تظهر ضرورة تفرضها الصيرورة نفسها، الأمر الذي جعله يتقرّب من حزب المؤتمر الوطني الهندي الذي كان قد تولّى غاندي قيادته في 1921، حتى أصبح أبو الكلام آزاد رئيسه في 1923، بدعم مطلق طبعاً من المهاتما غاندي نفسه، ومن جواهر لال نهرو، عضو حزب المؤتمر أيضاً، وأول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال.
بعد ترؤسه حزب المؤتمر، كان الشغل الشاغل لأبي الكلام آزاد تعزيز نسيج وحدة حزبه وتقريب المسلمين الهنود إليه، بغية تكتيل وتزخيم النضال الوطني الهندي من أجل الاستقلال والحرية. وقد سعى آزاد بجدٍ إلى محو نفور المسلمين المتزايد من "المؤتمر"، ولاسيما في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الفائت. وفي الوقت نفسه، كان يريد أن يكون "المؤتمر" أكثر مرونةً واستيعاباً للمسلمين في هيكلية الحزب وقاعدته العريضة، وكذلك في تشكيل الحكومة، ولاسيما بعد انتخابات 1937، وجَلَبَ له التزامه الثابت بمصلحة القومية الهندية مرة أخرى كرسي رئاسة حزب المؤتمر الوطني الهندي في 1940.

ولتعزيز فكرة القومية الهندية، من خلال تلمّس نبض ظهور القومية العربية، والاقتداء بها، كان زار أبو الكلام آزاد بغداد ودمشق والقاهرة والأستانة وباريس بين 1908 و1912، وكانت هذه المدن والولايات العثمانية وقتها (باستثناء باريس طبعاً) تتخبّط في أوج الفوضى السياسية، وأعراض الفجوة التاريخية، ونزعات الاستقلال القومية عن الإمبراطورية الأم (الرجل المريض)، حيث برزت تياراتٌ وجمعياتٌ قومية عربية عدّة، سرية وعلنية، حتى قبل زيارة الزعيم الهندي الكبير بسنوات طويلة، ومنها، مثالاً، جمعية حقوق الملّة العربية التي ظهرت سنة 1881، ولها فروع في دمشق وبغداد والقاهرة. "جمعية رابطة الوطن العربي" وقد أسسها نجيب عازوري في باريس سنة 1904، وهو صاحب الكتاب الشهير "يقظة الأمة العربية" (أصدره في 1905). "جمعية الوطن العربي"، وقد أسسها خيرالله خيرالله في 1905 في باريس، والذي أصدر من خلالها أول كتاب قومي عربي "الحركة الوطنية العربية". "الجمعية القحطانية" ظهرت في 1909... إلخ. وقد عبّر عن ذلك أبو الكلام آزاد في العديد من خطبه في الهند، قائلاً في إحداها في كلكتا "الشرق الأوسط يتميّز بنهضات قومية أنوارية حقيقية، علينا الاستفادة منها هنا في بلدنا المضطرب". وفي كلكتا نفسها، كان قد زار آزاد في منزله، وأقام فيه، الشيخ العربي المغربي تقي الدين الهلالي (أبو شكيب) ونصحه الأخير بضرورة أن يزور باريس، أو المغرب، لملاقاة الداعية النهضوي العربي والإسلامي الكبير، شكيب أرسلان، ويستفيد من خبرته كناشط بالغ الفذاذة في مضمار الوحدتين، الإسلامية والعربية. وكان أرسلان أيضاً خطيباً مفوّهاً، ويحرص على الخطابة بلغة الضاد، حتى في أوروبا والولايات المتحدة، على الرغم من أنه يجيد الإنكليزية والفرنسية والتركية والألمانية.
تحمّس أبو الكلام لمثل هذه الدعوة، ورحّب بها؛ وخاطب الشيخ الهلالي بأنه يفكّر جديّاً في توجيه دعوة لشكيب أرسلان لزيارة الهند، لكنه يشكّ في أن تسمح له السلطات الاستعمارية البريطانية بتحقيق هذه الأمنية. وهكذا لم يلتق الرجلان/ الرمزان العملاقان شخصياً، وإن التقيا فكرياً ونضالياً على قاعدة مواجهة الاستعمار الغربي، بوعي نهضوي، لا يلغي الإنجازات الكبرى للحضارة الغربية، لكنهما كانا على الضدّ منها في السياسة الاستعمارية البغيضة، وكأداة لقمع الشعوب والحؤول دون حصولها على حريتها واستقلالها وسياديتها الفعلية على أرضها وقرارها.
ونستدرك، فنقول إن الثالوث الهندي الذي بنى أركان دولة الهند الحديثة، كلٌ من موقعه السياسي والتنويري الحضاري: المهاتما غاندي، أبو الكلام آزاد، وجواهر لال نهرو، قد عارضوا جميعاً تقسيم الهند، وحزنوا لذلك أشدّ الحزن. ولكن، وحده من بينهم كان آزاد الأكثر حراكاً وجدةً في هذا الشأن الخطير والمصيري. وقد دفع ثمناً باهظاً نتيجة راديكاليته هذه، فهو لم يحظ بثقة الأغلب الأعمّ من مسلمي الهند الذين اتهموه بالانحياز التام إلى سياسات الهندوس وطموحاتهم وتحقيق مآربهم على حساب سياسات (ومصالح) أبناء دينه وملّته من جهة. ومن جهة ثانية، لم يسلم الرجل من سهام كثيرين من الهندوس، وقد اتهموه بتمرير مصالح الأقلية المسلمة على حساب مصالح الأغلبية الهندوسية ومساواتهم غير العادلة بها، بينما الرجل لم يكن يسعى سوى إلى قيام دولة الوطن والمواطنة المنيعة والمحصّنة بالهوية القومية الهندية، تلك التي وحدها تحفظ حقوق الجميع، وفي مقدّمتها، الحقوق الدينية والثقافية.
وكان آزاد قد قال قبيل رحيله في 1958: "مهما حصل، لن أعترف إلا بوحدة الهند أرضاً وشعباً، ولن أكون ألبتة مثل ذاك الذي يسير بالمقلوب، أو على رأسه إلى حتفه".

A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.