20 يناير 2018
في انتظار مذكّرات عبد الرحمن اليوسفي
محمد أحداد
ينتظر المغاربة اليوم مذكرات المعارض، ورئيس الحكومة الشاهد على لحظات حساسة من تاريخ المغرب الحديث، عبد الرحمن اليوسفي. وربما سيكون سقف الانتظار عاليا، لأن الرجل حقق ما يشبه الإجماع النادر في تاريخ السياسة المغربي، وفي حوزته حقائق كثيرة، في وسعها أن تقوّض رواية المغرب الرسمية.
اليوسفي رجل سياسة، خبر المعارضة كما الحكومة، الحرب كما السلم، السلاح كما القلم؛ قاد تجربة التناوب في مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب المعاصر، حينما كانت الدولة قريبة من "السكتة السياسية". أعطى نظامَ الملك الراحل، الحسن الثاني، شرعيةً لم يكن يحلم بها رفاق إدريس البصري (وزير الداخلية الراحل)، طوال معركة "كسر العظام" مع مناضلي حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أيام كان اليسار يزرع الخوف في دواليب النظام، بالأفكار، لا بالصراع بشأن التزكيات الانتخابية.
آثر اليوسفي أن يشتغل من داخل بنية "المخزن"، بعد صراع مرير مع نظام الحسن الثاني، مؤمنا بأن مقولة "الإصلاح من الداخل" قادرةٌ على تغيير نسق السلطة، وعلى إحداث شرخ أو اختراق، إذا استعرنا عبارة جيل دولوز، لمؤسسات الدولة، وتسخيرها لخدمة المشروع الحداثي الذي قيل إن المغرب تبناه منذ بداية تسعينيات القرن الماضي. تجرّع "تاجر السلاح"، كما كان يصفه الحسن الثاني، مرارة الاشتغال في خندق واحد مع أشرس أعداء تجربة "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" قوة، وخاض حرب استنزاف طويلة مع إدريس البصري، الذراع القوية للملك الراحل. كان حلمه الوحيد، في تلك الأيام المختلفة من تجربة التناوب، أن يجتمع بالعمال والولاة بقوة رئيس الحكومة، من دون أن يكون البصري حاضرا، ليتحول حق دستوري مكفول إلى ما يشبه "المطلب المستحيل" للمعارض القديم.
لم يكن اليوسفي، الذي عركته السياسة والمنافي، ساذجا إلى الحد الذي يمكن أن يصدق معه أنه الوحيد الذي يسير الحكومة. لذلك سار في حقل من الألغام، بخبرة السياسي العارف بمؤشر
ميزان القوى؛ لكنه في كل مرة، كان في حاجة إلى التخفيف عن نفسه من الضغط الشديد الذي مورس عليه، فنحت عبارة "جيوب المقاومة" الشهيرة، تماما كما فعل الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، في بداية ولايته الحكومية، وأبدع الاتحاديون في ابتكار المصطلحات المعبرة عن الضربات القاسية التي تعرّضوا لها من البصري. .. جرّب "الصامت" مرارة لدغات رفاق الحزب، سواء ممن أغرتهم شهوة "السلطة"، أو من الراغبين في خلافته في منصبه ككاتب أول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. أخفى خيبة أمله مدة طويلة، وكان يسعى، بكل الحكمة التي تحلى بها، إلى أن يبقى صامدا في وجه الضربات. كان التحكّم عنيفا، وذا بأس شديد، وكانت كلما اشتدت حدته ترنحت حكومة التناوب.. وهذا ما كانت تريده الدولة بالتحديد؛ أما الاستقلاليون (حزب الاستقلال) المتحالفون معه في إطار الكتلة الديمقراطية فقد كانوا يحصون زلاته، منتظرين سقوطه في المنعطف الأول ليغلف شعار "أمولا نوبة" (شعار لحزب الاستقلال يرمز لمبدأ التناوب في رئاسة الحكومة) بمزيد من أسباب النزول.
في غمرة صراعه مع الحكومة الثانية، وانغماسه التام في تدبير القطاعات الحكومية، وفي إخماد النيران التي تشتعل كل مرة في بيته الحكومي الهشّ، كان حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يتهاوى أمام أعين الجميع، ويفقد جاذبيته عند الناس، ويخذل قواته الشعبية؛ وما روهن عليه أو خُطّط له، بتعبيرٍ أكثر دقة، حدث بالحرف والفاصلة.
يقينا، لم يكن اليوسفي غافلا عن تراجع قوة حزبه. وعلى الرغم من كل العمليات القيصرية التي أجراها لتضميد جراح الاتحاديين، فإن الداء كان قد تسرّب إلى المسام بشكلٍ لم تعد المراهم الخفيفة كافيةً معه لمعالجة لدغات سامة، استحال معها الجسد الاتحادي إلى مجرد ذكرى، أو حنين، ينتمي إلى العهود السحيقة!
إنجازات اليوسفي، وهي كثيرة، لا يمكن، بأي معنى، أن تجعل منه شخصية مقدسة غير قابلة للانتقاد، أو المساءلة، أو التقييم، فرجل السياسة ينبغي أن يكون دائما موضع تأييد واحتجاج.
لقد ضحّى اليوسفي بتاريخ حزبه في سبيل ضمان تناوبٍ توافقيّ هش، سعى القصر إلى ترويضه، وجعله متسقا تمام الاتساق مع مبدأ "المخزن يتجدّد ولا يتغير"، وقاوم لكنه استسلم في الأخير.. إذ نجحت خطة المخزن في أن تقول للرأي العام إن المنتخب مجرد "موظف" سيئ، لا يحل مشكلا ولا يقود دولة. ومن الطبيعي أن تنزاح الدولة بعد ذلك عن "المنهجية الديمقراطية".
نعلم أن هذه "السطوة" التي مارسها المخزن جعلت اليوسفي، تاجر الأسلحة الجريء، ينكفئ على نفسه، قبل أن يذهب إلى بروكسل، ليتحدث بكثير من المرارة عن "تناوبه المجهض"، مخترعا مفهوم "أرض الله الواسعة".
قد نختلف في تقييم تجربة اليوسفي في الحكومة، وقد ننتقد قبوله "المهين" بانخراط حزبه في حكومة إدريس جطّو، على الرغم من أن الحزب احتل المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية. وقد نتهمه، من دون تعسف، بأنه أسهم، إلى جانب الاستقلاليين، في إجهاض التناوب الديمقراطي، وقد نحمّله جزءا من المسؤولية في تشتيت البيت الاتحادي، وإضعافه من الداخل، وتأجيج حرب التيارات، وقد نرى في استسلامه لما كان يسميها "جيوب المقاومة" نقطة سوداء في مسار تاجر الأسلحة، وربما سنعد خطابه في بروكسل إعلان هزيمةٍ صريحا للمبادئ التي دافع عنها عقودا، سواء من داخل المعارضة أو من داخل المؤسسات. وقد نختلف مع اليوسفي في تفاصيل حكومة التناوب، وقبوله بمجاورة إدريس البصري في المجلس الحكومي نفسه؛ غير أن تقييم التجارب السياسية للأفراد والجماعات لا يمكن أن يـُقرأ بمعزل عن سياقاتها وظروفها. ولا يمكن أن يقرأ كذلك من دون إقامة الوزن لقوة الفاعلين الآخرين. على هذا النحو، لا يمكن أن يكون الحكم على اليوسفي الذي شارك في تجربة سياسية تقبل التأييد والاحتجاج بحسابات سياسية قديمة، تشتعل بين الرفاق الأعداء.
اليوسفي رجل سياسة، خبر المعارضة كما الحكومة، الحرب كما السلم، السلاح كما القلم؛ قاد تجربة التناوب في مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب المعاصر، حينما كانت الدولة قريبة من "السكتة السياسية". أعطى نظامَ الملك الراحل، الحسن الثاني، شرعيةً لم يكن يحلم بها رفاق إدريس البصري (وزير الداخلية الراحل)، طوال معركة "كسر العظام" مع مناضلي حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أيام كان اليسار يزرع الخوف في دواليب النظام، بالأفكار، لا بالصراع بشأن التزكيات الانتخابية.
آثر اليوسفي أن يشتغل من داخل بنية "المخزن"، بعد صراع مرير مع نظام الحسن الثاني، مؤمنا بأن مقولة "الإصلاح من الداخل" قادرةٌ على تغيير نسق السلطة، وعلى إحداث شرخ أو اختراق، إذا استعرنا عبارة جيل دولوز، لمؤسسات الدولة، وتسخيرها لخدمة المشروع الحداثي الذي قيل إن المغرب تبناه منذ بداية تسعينيات القرن الماضي. تجرّع "تاجر السلاح"، كما كان يصفه الحسن الثاني، مرارة الاشتغال في خندق واحد مع أشرس أعداء تجربة "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" قوة، وخاض حرب استنزاف طويلة مع إدريس البصري، الذراع القوية للملك الراحل. كان حلمه الوحيد، في تلك الأيام المختلفة من تجربة التناوب، أن يجتمع بالعمال والولاة بقوة رئيس الحكومة، من دون أن يكون البصري حاضرا، ليتحول حق دستوري مكفول إلى ما يشبه "المطلب المستحيل" للمعارض القديم.
لم يكن اليوسفي، الذي عركته السياسة والمنافي، ساذجا إلى الحد الذي يمكن أن يصدق معه أنه الوحيد الذي يسير الحكومة. لذلك سار في حقل من الألغام، بخبرة السياسي العارف بمؤشر
في غمرة صراعه مع الحكومة الثانية، وانغماسه التام في تدبير القطاعات الحكومية، وفي إخماد النيران التي تشتعل كل مرة في بيته الحكومي الهشّ، كان حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يتهاوى أمام أعين الجميع، ويفقد جاذبيته عند الناس، ويخذل قواته الشعبية؛ وما روهن عليه أو خُطّط له، بتعبيرٍ أكثر دقة، حدث بالحرف والفاصلة.
يقينا، لم يكن اليوسفي غافلا عن تراجع قوة حزبه. وعلى الرغم من كل العمليات القيصرية التي أجراها لتضميد جراح الاتحاديين، فإن الداء كان قد تسرّب إلى المسام بشكلٍ لم تعد المراهم الخفيفة كافيةً معه لمعالجة لدغات سامة، استحال معها الجسد الاتحادي إلى مجرد ذكرى، أو حنين، ينتمي إلى العهود السحيقة!
إنجازات اليوسفي، وهي كثيرة، لا يمكن، بأي معنى، أن تجعل منه شخصية مقدسة غير قابلة للانتقاد، أو المساءلة، أو التقييم، فرجل السياسة ينبغي أن يكون دائما موضع تأييد واحتجاج.
لقد ضحّى اليوسفي بتاريخ حزبه في سبيل ضمان تناوبٍ توافقيّ هش، سعى القصر إلى ترويضه، وجعله متسقا تمام الاتساق مع مبدأ "المخزن يتجدّد ولا يتغير"، وقاوم لكنه استسلم في الأخير.. إذ نجحت خطة المخزن في أن تقول للرأي العام إن المنتخب مجرد "موظف" سيئ، لا يحل مشكلا ولا يقود دولة. ومن الطبيعي أن تنزاح الدولة بعد ذلك عن "المنهجية الديمقراطية".
نعلم أن هذه "السطوة" التي مارسها المخزن جعلت اليوسفي، تاجر الأسلحة الجريء، ينكفئ على نفسه، قبل أن يذهب إلى بروكسل، ليتحدث بكثير من المرارة عن "تناوبه المجهض"، مخترعا مفهوم "أرض الله الواسعة".
قد نختلف في تقييم تجربة اليوسفي في الحكومة، وقد ننتقد قبوله "المهين" بانخراط حزبه في حكومة إدريس جطّو، على الرغم من أن الحزب احتل المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية. وقد نتهمه، من دون تعسف، بأنه أسهم، إلى جانب الاستقلاليين، في إجهاض التناوب الديمقراطي، وقد نحمّله جزءا من المسؤولية في تشتيت البيت الاتحادي، وإضعافه من الداخل، وتأجيج حرب التيارات، وقد نرى في استسلامه لما كان يسميها "جيوب المقاومة" نقطة سوداء في مسار تاجر الأسلحة، وربما سنعد خطابه في بروكسل إعلان هزيمةٍ صريحا للمبادئ التي دافع عنها عقودا، سواء من داخل المعارضة أو من داخل المؤسسات. وقد نختلف مع اليوسفي في تفاصيل حكومة التناوب، وقبوله بمجاورة إدريس البصري في المجلس الحكومي نفسه؛ غير أن تقييم التجارب السياسية للأفراد والجماعات لا يمكن أن يـُقرأ بمعزل عن سياقاتها وظروفها. ولا يمكن أن يقرأ كذلك من دون إقامة الوزن لقوة الفاعلين الآخرين. على هذا النحو، لا يمكن أن يكون الحكم على اليوسفي الذي شارك في تجربة سياسية تقبل التأييد والاحتجاج بحسابات سياسية قديمة، تشتعل بين الرفاق الأعداء.
دلالات