في المسؤولية عن قوارب الموت
واضح أنه كلما شددت الدول قبضتها على الهجرة الشرعية زادت الهجرة غير الشرعية، أو السرية، والتي لم تعد سرية، لأنها أصبحت على مرأى العالم ومسمعه. وطرفا هذه المعادلة البائسة هما الدول العربية والإفريقية المصدرة للمهاجرين غير الشرعيين من جهة وأوروبا (اتحاداً ودولاً أعضاء) من جهة ثانية. نركز هنا على مسؤولية الطرف الأول.
توظف الأنظمة التسلطية الإفريقية والشرق أوسطية، التي فشلت سياسياً واقتصادياً، الهجرة بنوعيها، المشروعة وغير المشروعة، متنفساً لتخفيف الضغط عليها. فالشباب المقصي من الدورة الإنتاجية، ومن دورة توزيع الثروات في هذه البلدان، ناقم على الوضع القائم (اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً)، وغير مؤطر، فهو يرفض الأحزاب السياسية، معتبراً أنها جزء من الأنظمة القائمة. وبالتالي، يصعب على هذه الأخيرة التلاعب به، ناهيك عن محاولة تأطيره واحتوائه. وعليه، في ظل انسداد الأفق الاقتصادي والسياسي، الشباب الناقم على الوضع القائم أمام خيارين: أن يصب جام غضبه على السلطة السياسية، في انتفاضات شبابية، كما حدث في بعض المدن العربية في السابق، أو من خلال انتفاضات عارمة، كما حدث مع الربيع العربي، أو أن يغادر أوطانه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وبما أن أمن النظام القائم أولوية قصوى، فلا بأس من أن يُقدف بالشباب خارج حدود الوطن، أي إفراغ البلاد من جزء من شبابها. ومن هذه الزاوية، يكاد رحيل الشباب يكون ترحيلاً. ويمكن القول إن شباب الربيع العربي ليس هو أول من رفع شعار "إرحل"، بل الأنظمة العربية والإفريقية أيضاً رفعته لدفع الشباب على الرحيل أو الإذعان، إلى درجة أنهم استعجلوا الرحيل، فكانت الفاجعة، بل الفواجع المتكررة، ومواسم الهجرة إلى الشمال.
بمعنى أن هناك تواطؤاً محلياً مع تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا. فكيف بأنظمة تسلطية جاثمة على صدور شعوبها منذ عقود، بنت آلة قمعية قوية، وأعدت لها ما استطاعت من عدة وعتاد، لا تتمكن من الحد من الهجرة السرية، وخصوصاً شبكات التهريب؟ لا يمكن لأي جهاز أمني، قمعي أو غير قمعي، أن يعمل جيداً في بيئة فاسدة. فالفساد هو الذي جعل شبكات التهريب تستفحل أيضاً: فهي تتغذى من الفساد العام في هذه البلدان وتغذيه. ذلك أنه من غير المعقول أن تستفحل شبكات تهريب المهاجرين في دول قمعية، لولا التواطؤ. صحيح أن حدود بعض الدول طويلة جداً، وإمكاناتها محدودة. لكن، يبقى أن الخلل موجود أيضاً على مستوى أداء أجهزتها. ثم يمكن أن نقلب المعادلة تماماً: عوض بناء أجهزة قمعية تستحوذ على جزء كبير من الموارد المالية المتاحة، لمحاربة الهجرة، أليس الأجدر ضخ هذه الأموال في التنمية الاقتصادية، لتحسين ظروف المعيشة في هذه البلدان، وضمان العيش الكريم لكل المواطنين، فالمشكلة، إذن، سياسية، قبل أن تكون اقتصادية.
شدّدت الأنظمة التسلطية تشريعاتها في مجال الهجرة بتجريم الهجرة غير المشروعة، الوافدة والمغادرة، وفتحت مراكز إيواء للمهاجرين السريين على أراضيها، رضوخاً لإرادة دول الاتحاد الأوروبي، في إطار مناولة أمنية لحساب الأخير. وبالتالي، حتى لما تتحرك لمحاربة الهجرة، فإنما تفعل وفق مصالح الغير في غالب الأحيان، وليس على أساس مصالح بلدانها. ومادام البقاء في الحكم الهم الوحيد للنخب الحاكمة، فإنها لا ترى حرجاً في إفراغ بلدانها من شبابها، من يد عاملة واعدة. وشتان بين من يخطط للمستقبل لبنائه، ومن يخطط للمستقبل لتدميره.
وغريب أمر هذه الأنظمة العربية والإفريقية التي لا ترى حرجاً في ظاهرةٍ لم تكن منتظرة: كيف وصل الحال بشباب إلى درجة تفضيل الموت على المكوث في بلدانهم! الرحيل، ولو نهائياً، على البقاء في أوطانهم. القاعدة هي أن يموت المواطن من أجل وطنه، لا بسبب وطنه (هارباً منه). الشعب قوام الدولة (من شروط قيام الدولة)، لكن تفريط أنظمة بجزء من الشعب ضرب لكيان الدولة، فالدول باقية ببقاء شعوبها، وليس ببقاء أنظمتها. فيمكن تغيير الأخيرة سلمياً أو بالعنف. لكن، لا يمكن تغيير الشعب، إلا بإبادته أو بالتخلص من جزئه غير المرغوب فيه شيئاً فشيئاً. ومن ثم، لا عجب من أن تتحرك الدول الأوروبية، بعد الفواجع المتكررة، فيما لا تحرك الدول المعنية ساكناً، وهذا تحصيل حاصل، فهي لا تعير أدنى اهتمام لحالهم وهم في أوطانهم، فكيف بها أن تتأثر بمصيرهم في عرض مياه المتوسط.
الحل لمشكلة الهجرة في تنمية اقتصادية وسياسية. فالإنسان المعزز المكرم في بلده وتتوفر شروط العيش الكريم لا يجنح إلى الهجرة. ويجب التشديد، هنا، على التنمية السياسية، لأن الإنسان، بطبعه، يميل إلى الحرية. لذا، حتى ولو تحسنت الظروف الاقتصادية، في ظل نظام سياسي تسلطي، فإنه سيختار الدول التي تضمن الحريات الفردية، لأن العدالة الاجتماعية، وهي مرهونة بنظام عادل وديمقراطي، يمكنها أن تخفف من حالة شظف العيش، وتحسن من ظروف المعيشة، حتى الخروج من دائرة البؤس، وولوج دائرة العيش الكريم وربما الرفاه، بيد أن الظروف المعيشية الجيدة لا تقود حتماً إلى حرية سياسية.