في الليلةِ الظَلماء... نفتقدُ الختيار

11 نوفمبر 2014
+ الخط -
فتحتُ عينيّ على الحياة في غزّة، وأبي يجلسُ في الصباح لسماعِ نشرةِ الأخبار من إذاعة اسرائيل الناطقة بالعربية، ونحن نتناول طعام الفطور، ونستعدّ للذهاب إلى المدرسة.كلّما نطقتْ المذيعة باسم "حركة فتح التخريبيّة ورئيسها ياسر عرفات"، كانَ أبي يردّ: "الله يخرب وشّك يا اسرائيل".

عرفتُ من حديث أبي وجدّي في الليالي الشتوية، أن هناك قائدًا يتحدّثون عنه حديثَ الأبطال هو ياسر عرفات. كانتْ غزّة ترزحُ تحتَ الاحتلال الإسرائيلي، ولم نسلمْ من المداهمات في بيوتِنا ومدارسِنا، فمُنعنا من لصقِ صورِه على الجُدران أو حتّى الكتابة عنه في مجلّات الحائطِ المدرسيّة، بناءً على سياسةِ الأونروا، التي كنّا نتعلّم في مدارسِها كلاجئين، وكانتْ تُعنى بإبعادِنا عن أيّ شأنٍ سياسي، لكنّنا كنّا نخرجُ من مدارسِها، نرمي الجنودَ بالحجارة ونهتفُ باسمه.

حين أصبحتُ مراهقةً، كان هو حُلمي وفارس أحلامي، بغضِ النظرِ عن عمرِه وهيئتِه. كنتُ ألفُّ عنقى بالكوفيّة المرقطة، وحين كنتُ أسافرُ إلى مِصْر، كنتُ أتعمّدُ أن ألفّها بطريقتهِ، بحيث تبدو خريطةُ فِلَسْطين مرسومةً على ظهري، فتشيرُ صديقاتي المصريّات نحوي: "أبوعمار أهو".

مرّتْ سنواتُ النضال خلال انتفاضةِ الحجارة، وكنتُ أستمعُ إلى صوتِه عبر إذاعةِ مونت كارلو، فيزدادُ يقيني أنّه البطل المنقذ لنا من الاحتلال، وأنّه الرجلُ الذي حيّرَ إسرائيل بقوّتِها وجبروتِها.

إلى أن وصلَ ياسر عرفات إلى غزّة في تموز من عام 1994، فصمّمتُ على أن أكونَ ضمنَ الحشود التي خرجتْ لاستقباله في معبرِ رفح الحدودي، رغم بطني المكوّرة وزَجْر زوجي وحماتي لي خوفًا على جنيني الذي تأكّدوا أنه سيكون ذكرًا، وكنتُ قد أعلنتُ أني سأسمّيه "ياسر".

لكن ذلك لم يتيسرْ لي كامرأةٍ مقهورةٍ. بيد أنّي حقّقت أمنيتي متأخرةً حين أطلقتُ على ابن شقيقتي الذي وُلد على يدي في يوم وفاة عرفات اسم "عمار". لكأنني أقولُ للعالم إن ياسر عرفات لن يموت، ما دامت نساء فلسطين تنجبن أشبالًا سيرفعون علمَ فلسطين فوق الأقصى يومًا مثلما كان يردّد ويتمنى. 

سنواتُ حصارِ عرفات الثلاث في المقاطعة، كانتْ مؤلمةً بالنسبة لي. حين كان أبي وجدّي يتحدّثان عنه، فيقول جدّي بأسف: "إجا الختيار ناطور لليهود". بمعنى أنه أصبحَ مثل الأسدِ الجريحِ في قفصٍ حديدي لا حولَ له ولا قوّة. ولذا فإنّ يوم وفاة "أبو عمار" لا زال حاضرًا في داخلي.

إذ إن ذلك الإحساس بالضياع، لا زال أيضًا في داخلي. شعرتُ أني فقدتُ شيئًا كبيرًا، ملاكي الحارِس الذي كانَ يجعلني أنامُ مطمئنةً، وأنّه سيدبّرُ كلّ شيء، وسيعيدُ الأرض، ويطردُ المحتلّ. كنتُ متيقنة أن مثلَه لن يموتَ سريعًا، ميتةً مثل هذه. وقتها، كنّا نستعدّ للاحتفال بعيد الفطر، بقيتْ حالةٌ من الذهول تسودُ الناسَ في الشوارع، وهم غير مصدقين أن "الختيار" قد مات.

عرفات أو أبو عمار أو الختيار، كانَ بالنسبة لي كامرأةٍ تتحدّر من أسرةٍ لاجئةٍ في غزّة بعد نكبة 48، هو الحُلم والرَمز والأمل. مهما اختلفوا حولَه، فهو رمز القضيّة الفلسطينيّة، وقد كانَ مثالًا للقائدِ الذي جمعَ شعبَه، وحملَ همّه حتّى وصلَ به المطاف أو المؤامرة ليغدو مُحاصَرًا في المقاطعة، ثمّ يموتُ ميتةً، تُثار حولها التساؤلات.

سرحتُ بكلّ هذا، ونحن نعيشُ في غزّة منذ سنوات ثمانٍ، تحت الحصار، حالنا تشبه كثيرًا حالَ قائدنا ورمزنا، الذي وإن عابَ عليه الجميع بعضَ الأخطاء، إلا أنّه هو الذي استطاع أن يحافظَ على اسم فلسطين وقضية اللاجئين. لذلك، لا يمكن أن ننساه.

لا يمكن أن يغيبَ من مخيّلتي وأنا أعاني مع أولادي، ومثلي أكثر من مليون ونصفٍ فلسطيني في غزّة، من الحصار الرهيب، وتآمرِ المتآمرين علينا، إلى أن وصلنا حدّ أن نغدو حقلًا لتجاربَ إسرائيل، حين تستعرضُ أسلحتَها وقوّتها، وتُمطرنا بأسلحةٍ محرّمةٍ، وتحوّل أطفالَنا، الذين تغنّى أبو عمار بجبروتِهم وقبّل أياديهم، إلى أشلاء.

في الليلة الظلماء يُفتقدُ البدر، هكذا سرحتُ وقلتُ لنفسي فيما تغرقُ مدينتي الصغيرة، في الظلام نتيجةَ شحّ الكهرباء، فتتحوّل غزّة إلى سجنٍ كبيرٍ سقفه السماء. أفتقدُ أبو عمار الذي كان يضربُ المثل ببحرِ غزّة، لم يكفّ في كلّ خطاب أن يردّد: "واللي مش عاجبه يشرب من بحر غزّة". وها هو الحصار يقتلُ غزّة ببطء، كما قتلَ الحصارُ زعيمها ورمز ثورتها ببطء.
المساهمون