في العلمانيّة الإقصائيّة

14 سبتمبر 2014

متظاهر ضد الطائفية في بيروت (25 نيسان/2010/أ.ف.ب)

+ الخط -

نشأت العلمانيّة في السّياق الحضاري الغربي، ضمن ظروف تاريخيّة "مخصوصة"، تمثّلت، أساساً، في استفراد الكنيسة بالحكم، وحرصها على توجيه سلوك النّاس، وتنميط أعمالهم وأقوالهم، ومحاصرة أفكارهم، ومصادرة قدرتهم على الإبداع. وتوسّل الحكّام سلطة البابا في عصور الظّلام، ليسيطروا على الحجر والبشر، وليطلقوا أيديهم في كلّ شيء باسم الدّين، على نحوٍ تعالت معه السّلطة عن التّاريخ، وأصبح الحكم شأناً مقدّساً، وغدت الكنيسة وصيّاً على العقول، وخبيراً بمصائر النّاس في الدّنيا والآخرة، بل انصرفت توزّع صكوك  الغفران على مَن دان لها، وصكوك التّكفير على مَن خرج عنها، ما أنتج حالة من الرّفض لدى المحكومين، فانتفض النّاس على الحكم الكنسي في ثورات مختلفة في فرنسا وانجلترا، وطالبوا بتحييد الكنيسة عن الشّأن العام. وواكب ذلك ظهور فلسفة الأنوار مع جون لوك وجان جاك روسّو التي دعت إلى تقييد سلطات الحاكم، وصياغة عقد اجتماعيّ مدني ينظّم علاقة الحاكم بالمحكوم، ويضمن تحديد صلاحيّات المؤسّسة الدّينيّة، من دون إلغائها بالتّمام من المشهد العمراني، أو إضمار المعاداة لها. فقد كان المراد جعل الدّين مؤسّسة مستقلّة بذاتها تربطها ببقيّة مؤسّسات المجتمع المدني علاقة تجاور، لا علاقة استتباع أو هيمنة. ولم يكن القصد بالعلمانيّة تجفيف منابع الدّين، ولا منع أسباب التديُّن، ولا مصادرة أصوات المتديّنين، أو التّضييق على أدائهم الطّقوسي وانتمائهم العقدي ما دام غير خارج عن مقتضيات التّعايش السّلمي بين مكوّنات المجتمع.

وقد استلهم مفكّرون عرب الإرث العلماني، وبذلوا جهدهم في إجرائه، ضمن الفضاء العمراني العربي الإسلامي تنظيراً وحكماً. وكان لقوميّين واشتراكيّين وليبراليّين وعسكريّين وصلوا إلى الحكم، ميلٌ واضح للاحتذاء بالنّموذج الإيديولوجي الغربي، في سياسة الدّولة وتنظيم شؤون النّاس. وكانت صدمة المواطنين من الدّولة "العلمانيّة" الجديدة كبيرة، فقد جدّ حكّام عرب في فرض علمنة قسريّة على المجتمع، وروّجوا شكلاً مشوّهاً من العلمانيّة، يقوم، أساساً، على معاداة الدّين واستنفار أجهزة الدّولة البوليسيّة لمراقبة المتديّنين. وبلغ الأمر حدّ اعتبار الدين سبباً للتخلّف، واعتبار الانتماء إلى الهويّة العربيّة الإسلاميّة من أشكال الرّجعيّة، وكان المراد  ترسيخ نظام الدّولة الشموليّة واختزال العلمانيّة في معاداة حركات الإسلام الاحتجاجي ومحاصرة أشكال التديّن، فجرى تحويل الدّولة الوطنيّة، التي ضحّى في سبيل إقامتها آلاف الثوّار والشّهداء، إلى دولة أحاديّة مستبدّة، تلغي الآخر، وتصادر الحقوق المدنيّة، وتتنكّر لأشواق المواطنين إلى الحرّية والكرامة والعدالة. وتجاهل هؤلاء عمداً أنّ العلمانيّة تقتضي الدّيمقراطيّة والتعدديّة واحترام الآخر الدّيني والسّياسي وتكريس الغيريّة.

وقد أدّى هذا النّهج في الحكم المغلق إلى ثورة العرب على حكّامهم المتاجرين بالعلمانيّة، المسكونين بهاجس الزعاماتيّة. وظنّ الملاحظون أنّ الرّبيع العربي سيدفع علمانيّين إلى مراجعة تمثّلاتهم المغلوطة للعلمانيّة، وتقديم نقد ذاتيّ لمقاربتهم الإيديولوجيّة للأنا والآخر ونظام الحكم. لكنّ الواقع أنّ الأمر لم يتبدّل كثيراً، وقد اعتراني إحساس بالذّهول، وأنا أرى محسوبين على التيّار العلماني، يبادرون بالدّعوة إلى الانقلاب على نتائج صندوق الاقتراع في أكثر من بلد عربي، بل إنّ آخرين لا يتورّعون في ممارسة العنف اللّفظي والمادّي والدّعوة إلى تصفية الآخر على أساس هويته السياسيّة.

ولا يتردّد بعضهم في التدخّل في السّلوك الدّيني للنّاس، والاستهتار بمقدّساتهم وبلباسهم، ونسوا أنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يكفل حرّية المعتقد وحرّية اللّباس. ويعمد بعض "المتعلمنين" إلى إثارة بذور الفتنة الطائفيّة، بتقسيم المجتمع إلى حداثيين ورجعيين، ومتنوّرين وظلاميين، وهي نعوت تطلق، في الغالب، جزافاً، وفي نقض تامّ لضرورة الاعتراف بالآخر، والإقرار بمبادئ التّعايش السّلمي بين المواطنين... إنّنا نعيش ما يسمّيه عزمي بشارة "عصر العلمانيّة الإقصائيّة" التي تنسف قواعد الدّيمقراطيّة، وتتبنّى الأحاديّة. وأحرى بأتباعها مراجعة أفعالهم ومقولاتهم، وإلاّ سيظلّون خارج التّاريخ.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.