في الذكرى الـ28 لإعادة توحيد اليمن، تحضر ممارسات التحالف العربي في المحافظات الجنوبية والشرقية للبلاد، كأحد أبرز عناوين المرحلة، التي تلاشت فيها مؤسسات دولة الوحدة إلى حد كبير، وعززت فيها سياسات التحالف، بواجهته الإماراتية، حالة الانقسام، على نحو يعمق تحديات عودة اليمن بلداً موحداً، في إطار دولة بصيغتها الفدرالية التي تتبناها الحكومة الشرعية، وفي ظل واقع لا يعزز العودة إلى يمن مشطر بين شمال وجنوب، بقدر ما يهدد بتشرذم، يتعدى الصيغة السابقة للتشطير، إلى التمزق بين كيانات جهوية ومناطقية.
وبوصفها "العاصمة المؤقتة"، كما تسميها الحكومة الشرعية، تعد عدن أقرب الصور لليمن في الذكرى الـ28 لتوحيد البلاد. فخلافاً للمراحل السابقة، التي كان الاحتفاء فيها في 22 مايو/أيار كل عام، كيوم وطني ولدت فيه الجمهورية اليمنية، والمناسبة الأهم في البلاد، فإن الحكومة الشرعية، وفقاً لمصادر محلية لـ"العربي الجديد"، تجد عوائق تمنع إمكانية إحياء المناسبة، بفعاليات وأنشطة حكومية وجماهيرية، تليق بالمناسبة، بسبب سيطرة قوات وأطراف تتبنى الانفصال، وتدعمها الإمارات، وتضم مجمل القيادات والقوى الداعمة لما يُسمى بـ"المجلس الانتقالي الجنوبي".
وتعد عدن عاصمة الوحدة، التي احتضنت اليوم التاريخي لتوحيد اليمن في 22 مايو العام 1990، وفيها جرى إنزال رايتي دولتي الشطرين، الجنوبي والشمالي، ورفع راية اليمن الموحد. وبصفتها عاصمة لـ"الجنوب" قبل الوحدة وثاني أهم المدن اليمنية، بعد صنعاء، بقيت العنوان الأبرز للتحولات المرتبطة بوحدة اليمن، بما في ذلك، الحرب الأهلية صيف العام 1994، مروراً بانطلاق فعاليات "الحراك الجنوبي" المنادي بالانفصال منذ العام 2007، وصولاً إلى أحداث مطلع 2015، التي دفعت بالرئيس اليمني، عبدربه منصور هادي، للجوء إليها، وإعلانها "عاصمة مؤقتة"، قبل أن يتقدم باتجاهها الحوثيون وحلفاؤهم الموالون للرئيس الراحل، علي عبدالله صالح، وتبدأ رحلة التدخل العسكري للتحالف، بقيادة السعودية. وفي الشهور الأولى للحرب، كان خطاب التحالف يركز على أهمية استعادة عدن من قبضة الحوثيين كهدف لا يحتمل التأجيل، لتعود إليها الحكومة اليمنية، التي انتقلت إلى الرياض بالتزامن مع تقدم الحوثيين أواخر مارس/آذار. وبعد أشهر من الحرب، أعلنت الحكومة "عدن مدينة محررة" في 17 يوليو/تموز. وخلال الأيام والأسابيع التي تلت ذلك، هُزم الحوثيون وحلفاؤهم، في أغلب المحافظات الجنوبية، لكن الحكومة لم تعد كما كان مقرراً. فما الذي حدث؟
وتولت الإمارات واجهة قيادة التحالف عملياً خلال العمليات العسكرية في عدن ومحيطها، وشاركت بقوة برية، للمرة الأولى. وبدلاً من أن تجري عملية إعادة تأهيل عدن لتعود إليها الشرعية، بعد الخراب الكبير الذي تعرضت له جراء الحرب، بدأت أبوظبي بنسج تحالفات مع قوى محلية تجاهر بالدعوة إلى الانفصال، وصولاً إلى النصف الأول من العام 2016، تاريخ الكشف عن تأسيس قوات ما عُرف بـ"الحزام الأمني"، والتي برزت لاحقاً كقوة تابعة للإمارات وممولة منها خارج أطر أجهزة الدولة الرسمية، فيما كان الوضع في المحافظات الأخرى، في غاية التعقيد، كنتيجة للحرب وانتشار مسلحي تنظيم "القاعدة"، وآثار الحرب مع الحوثيين وما رافقها من انهيار لأجهزة الدولة. وبدأ الوضع، سواء عبر "الحزام الأمني"، أو غيره من التشكيلات العسكرية التي بدأ إعدادها وتنظيمها وتجنيد أفرادها عقب الحرب، يتخذ طابعاً مناطقياً صرفاً، من خلال كون مختلف القوات تتألف من الجنوبيين، فيما راية التشطير - اليمن الجنوبي سابقاً، ترافق رايتي الإمارات والسعودية خلال العمليات العسكرية. وكان ذلك بمثابة أولى المؤشرات على توجه التحالف، بدعم قوات جنوبية، لا قوات يمنية مؤلفة من مختلف مناطق البلاد، تمتثل لأوامر الحكومة الشرعية. وتعرض المواطنون الذين يتحدرون من المحافظات الشمالية لمضايقات واسعة في عدن من قبل "قوات الحزام الأمني" وغيرها من التشكيلات.
ومن المهم في السياق، الإشارة إلى أن الحالة الشطرية والمزاج الذي يميل إلى الانفصال جنوباً، قد بدأ عملياً في مرحلة سابقة لتدخل التحالف. لكن المفاجئ بعد ذلك، هو رعاية ودعم التحالف، أو غض الطرف على الأقل، عن جملة سياسات وممارسات، بدا من خلالها كأن ما يجري ليس إعادة الشرعية اليمنية، بل أقرب إلى عملية بناء لمؤسسات الانفصال تحت غطاء الشرعية، بالتزامن مع ما تتعرض له مؤسسات الدولة في صنعاء، من تحريف ناتج عن سيطرة الحوثيين وحرب التحالف. وخلال العام 2017، بدأت الأحداث تكشف عن مرحلة جديدة من سياسات التحالف. فبعد أن كان مقرراً أن تعود الشرعية إلى عدن، كانت عودتها بالفعل، بشكل متقطع، على سبيل الواجب، بإيصال رسالة أن التحالف أعاد الشرعية. ولكن صراعاً كان قد بدأ منذ العام 2016 برز أكثر من أي وقت مضى، في أحداث مطار عدن في فبراير/شباط 2017، عندما رفض قائد موال للإمارات توجيهات من هادي بتسليم المطار لقائد جديد، ووصلت الأزمة لاندلاع اشتباكات محدودة، سرعان ما جرى احتواؤها، ولكن بمغادرة هادي مجدداً إلى الرياض، التي باتت بمثابة مقر الإقامة بالنسبة إلية، منذ أكثر من ثلاث سنوات. وفي إبريل/نيسان 2017، أطاح هادي بمحافظ عدن السابق، عيدروس الزبيدي، ومسؤولين آخرين، أبرزهم وزير الدولة السابق، هاني بن بريك، من مناصبهم. والرجلان على نحو خاص من المحسوبين على أبو ظبي، التي قامت في المقابل، بإجراءات أكثر انكشافاً، من خلال دعم تأسيس "المجلس الانتقالي الجنوبي" كهيئة سياسية قدمت نفسها كسلطة جنوبية (انفصالية) أو هيئة حكم في المناطق الجنوبية، على غرار "المجلس السياسي الأعلى"، واجهة السلطة بمناطق سيطرة الحوثيين في صنعاء. إلا أنه في مرحلة لاحقة، وبعد أن كان تأسيس "المجلس" ودعمه من أبو ظبي، بمثابة انكشاف للتحالف واختبار لموقف الرياض، دفع الداعمون للمجلس للحد من أنشطته ومحاولة دفعه لتبني مواقف تعلن الاعتراف بـ"الشرعية"، ليس بمقتضاها الذي لا يتفق مع الاستمرار بتبني الدعوة إلى الانفصال، وإنما كحاجة للتحالف، باعتبار أن دعم "الشرعية"، هو الغطاء الذي تدخلت تحت إطاره السعودية والإمارات.
ومنذ مطلع العام 2018، دخل صراع التحالف - الشرعية، مرحلة جديدة، إذ للمرة الأولى انتقلت الأزمة من الصمت اليمني حيال تصرفات الإمارات الداعمة للانفصال، إلى الرفض المعلن، من خلال تصريحات مسؤولين رفيعي المستوى يتهمون أبوظبي صراحة بمنع هادي من العودة إلى عدن، وبممارسات من شأنها تمزيق البلاد، بما في ذلك، تأسيس الجيوش القبلية والمناطقية الخارجة عن أطر الشرعية، من "الحزام الأمني" إلى "النخبة الحضرمية" و"النخبة الشبوانية"، وجميعها مسميات، لم تعد تثير قلقاً بالنسبة لوحدة اليمن، فحسب، بل تثير قلقاً أيضاً على مستوى المحافظات الجنوبية، التي تنظر إلى ما يتم من ممارسات باعتباره خطراً يهدد وحدة الجنوب، الذي يبرز فيه هو الآخر، نوع من الحساسية تجاه التقسيم بين الجنوب وحضرموت (شرقاً). ووفقاً لوزير النقل اليمني، صالح الجبواني، في كلمة شهيرة له في فبراير/شباط 2018، فإن "الجيوش القبلية والمناطقية التي أنشأتها الإمارات، هي سبب الوضع المزري في المحافظات المحررة". وبالترافق مع ذلك، تشجع مسؤولون يمنيون آخرون لتوجيه التساؤلات الكبيرة المتعلقة بسياسات التحالف وممارساته في البلاد، إذ استقال وزيران في الحكومة، هما نائب رئيس الحكومة وزير الخدمة المدنية، عبد العزيز جباري، ووزير الدولة، صلاح الصيادي، وأشارا في تصريحات إلى أن ممارسات التحالف سبب استقالتهم. وعلل الصيادي استقالته "لانحراف بوصلة أهداف وغايات عاصفة الحزم وإعادة الأمل من قبل بعض أطراف التحالف العربي لدعم (إعادة) الشرعية إلى اليمن، وأصبح اليمن مهدداً بالتشرذم إلى كانتونات تتحكم بها مليشيات مسلحة، مدعومة بكل ما يلزم مادياً وعسكرياً، في مقابل تقليص وأحياناً منع الدعم عن المؤسسات الأمنية والعسكرية التي تتبع مؤسسة الدولة الشرعية".
من زاوية أخرى، ومع وضوح دور أبوظبي بدعم تيارات انفصالية، برزت التساؤلات حول موقف الرياض، التي تقود التحالف، واتخذت موقفاً ضبابياً إزاء ممارسات حليفتها في الجنوب اليمني. فبينما تحرص الرياض على الظهور كداعم للشرعية ووحدة اليمن، فإنها تصمت في المقابل عن ممارسات أبوظبي. على أن قضية كبرى كوحدة اليمن، من غير المنطقي ألا يكون فيها للسعودية رأي حاسم، بما يدفع البعض، لاعتبار أن ما تقوم به الإمارات يحظى برضى سعودي بصرف النظر عن التفاصيل. وقد اعتبر سفير اليمن لدى "اليونسكو"، أحمد الصياد، في مقابلة مع قناة "الجزيرة" أخيراً، أن هناك تناغماً سعودياً إماراتياً وتوجهاً خفياً لتجزئة اليمن. وبصورة إجمالية، فإنه وفي ظل الوضع الذي آلت إليه البلاد، من انهيار لأغلب مؤسسات الدولة وانقسامات سياسية وعسكرية، جعلت الواقع في البلاد أقرب إلى التجزئة منه إلى الوحدة، بات دور التحالف من الوضوح بمكان في ما وصلت إليه البلاد، لكن الواقع لم يعد يهدد اليمن، الذي توحد في العام 1990، بل إن عودة التشطير إلى شمال وجنوب، يبدو هو الآخر، بعيد المنال، في واقع يتجه إلى ترسيخ التقسيم في مراكز متعددة.