19 أكتوبر 2019
في التسلطية وطاعة أولي الأمر
إذا اعتبرنا التسلطية تعبيراً حديثاً للاستبداد، فإنه يتعين التذكير بالتعريف الذي وضعه عبد الرحمن الكواكبي. فإذا كانت السياسة "إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة"، فإن الاستبداد هو "التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى"، يقول الرائد النهضوي العربي، الذي يرى، أيضاً، أن "الاستبداد هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خوف تبعة". ولا نبالغ إذا قلنا إن أحد أبرز المسوغات السياسية والدينية، لتبرير التسلطية وتجديدها في الماضي والحاضر، هو مبدأ طاعة أولي الأمر، مما جعل بعضهم يفسر التسلطية عربياً بوجود تقاليد الطاعة للحاكم في المجتمعات العربية-الإسلامية.
بالطبع، ساهم التراث العربي-الإسلامي، في شقه الداعي إلى طاعة أولى الأمر، خوفاً من الفتنة، في إيجاد بيئة اجتماعية متقبلة للإذعان للحاكم. واستغلت دولة الخلافة، لما حولت الحكم إلى ملك عضوض، ثم الأنظمة العربية لما بعد الاستقلال، هذه الظاهرة المبنية اجتماعياً وتاريخياً. وعمقت الأنظمة العربية هذه الظاهرة، من خلال المؤسسة الدينية المرتبطة بالسلطة (الإسلام الرسمي). ونشأ من هذه العلاقة المصلحية بين المؤسستين، السياسية والدينية، ما تسميه منى مكرم عبيد، "مجمع المصالح السياسي-الديني".
ومع مرور الزمن، تحولت مقولة طاعة أولي الأمر إلى سلاح فتاك لانتهاك الحريات، على الرغم من التناقض في المفردات الذي يعتريها: إن أولي الأمر هؤلاء نصبوا أنفسهم قائمين على الشأن العام بحد السيف، ومن ثم، لا شرعية لهم، ولا طاعة لمن لا شرعية له، مع العلم بأن الشرعية لا تعني الإذعان والخنوع لأهواء الحاكم. الحقيقة أن مقاربة الطاعة لا تكفي لشرح الإذعان الاجتماعي، وتجذر التسلطية في الواقع السياسي العربي.
القول بطاعة أولي الأمر يعطي الانطباع بأن العربي المسلم مذعن بطبعه، ومطيع بطبعه، للحاكم. وهذا إجحاف في حق السمة السياسية المعارضة التي ميّزت المجتمعات العربية، في الصراع مع السلطة على مر العصور. فالمعارضة السياسية في الإسلام كانت متأصلة، ولو بمسوّغ ديني. والتاريخ يشهد أن معارضة مؤسسة الخلافة كانت القاعدة، وكما لاحظ علي عبد الرّازق، فإن "مقام الخلافة الإسلامية كان منذ الخليفة الأول، أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، إلى يومنا هذا، عرضة للخارجين عليه المنكرين له، ولا يكاد التاريخ الإسلامي يعرف خليفةً، إلا عليه خارج، ولا جيلاً من الأجيال مضى، من دون أن يعرف مصرعاً من مصارع الخلفاء. نعم، ربما كان ذلك غالباً شأن الملوك في كل أمة، وكل ملة وجيل. ولكن، لا نظن أن أمة من الأمم تضارع المسلمين في ذلك. فإن معارضتهم الخلافة نشأت، إذ نشأت الخلافة نفسها، وبقيت بقاءها. ولحركة المعارضة هذه تاريخ كبير جدير بالاعتبار. وقد كانت المعارضة، أحياناً، تتخذ لها شكل قوة كبيرة، ذات نظام بيّن، كما فعل الخوارج في زمن علي بن أبي طالب، وكانت حيناً تسير تحت ستار الأنظمة الباطنية، كما كان لجماعة الاتحاد والترقي، مثلاً، وكانت
تضعف، أحياناً، حتى لا يكاد يحس لها وجود، وتقوى، أحياناً، حتى تزلزل عروش الملوك، وكانت ربما سلكت طريق العمل متى استطاعت، وربما سارت على طريقة الدعوة العلمية، أو الدينية، على حسب ظروفها وأحوالها". وبالتالي، السجل التراثي غني بالمعارضة، وعدم الخنوع للحكام.
غالباً ما يُطنب في الحديث عن طاعة أولي الأمر، تجنباً للفتنة التي قد تفتك بالأمة، قديماً وحديثاً. فقد استخدمت دولة الخلافة فزاعة الفتنة، كما توظفها أنظمة ما بعد الاستقلال. وذلك عبر قراءة انتقائية للتراث، لبناء رواية تاريخية جديدة، تتوافق وأهواء الحكام. فالحديث عن طاعة الحكام يقود، حتماً، إلى قراءة انتقائية للتراث العربي-الإسلامي. فمثلاً، يغض دعاة طاعة أولي الأمر البصر عن الشق التنويري من التراث، مثل أعمال ابن رشد، وتحليله التسلطية ووحدانية السلطة، وفي ذلك إجحاف وظلم في حق الفقهاء والعلماء، خصوصاً مع سلخ بعض الأحداث التاريخية، الشاذة من سياقيها، وجعلها قاعدة، على الرغم من أن الشاذ يحفظ ولا يقاس عليه. وكما يلاحظ الفضل شلق، فهؤلاء العلماء لم يدعوا "إلى طاعة السلطان عادلاً كان أم جائراً، لأنهم كانوا أتباعاً له"، بل إن مواقفهم أملتها ظروف تاريخية وموضوعية محددة. فلا الماوردي، ولا أبو يعلى، ولا ابن جماعة، ولا ابن تيمية، كانوا تابعين للحكام.
والملاحظ أن هناك أفكاراً لابن تيمية يستشهد بها دعاة طاعة أولي الأمر في دول زماننا هذا، بينما أفكاره الأخرى مسكوت عنها. فمن يستدلون بمفاضلة ابن تيمية (تفضيل الخضوع للحاكم الجائر خوفاً من الفوضى) الظرفية، بسلخها عن سياقها التاريخي والسياسي، لا يستشهدون به لما قال (في رسالة الحسبة) "إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يُروى الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة‘". كما ينسون، أو يتناسون، أنه توفي في غياهب سجون السلاطين.
وبالنظر إلى تعثرات الربيع العربي، المفتعلة منها وغير المفتعلة، عادت بقوة مقولة طاعة أولي الأمر درعاً تقي الأمة من الفتنة، ليتربع منطق المفاضلات التعيس (إما يزيد أو السيف) على عرش الوعي السياسي العربي، في وقت تعيش فيه المنطقة محاولة لقطيعة معرفية، فيما يتعلق بالعلاقة بالسياسة والشأن العام. وتُستخدم هذه المقولة، راكبة موجة المخاوف من الحروب الأهلية (سورية وليبيا) ومن داعش ونظيراتها، كأحد أهم مسوغات الحكم في المنطقة العربية. ومن هذا المنظور، قد يقود الربيع العربي، أيضاً، إلى تدعيم التسلطية في عدة دول عربية.
بالطبع، ساهم التراث العربي-الإسلامي، في شقه الداعي إلى طاعة أولى الأمر، خوفاً من الفتنة، في إيجاد بيئة اجتماعية متقبلة للإذعان للحاكم. واستغلت دولة الخلافة، لما حولت الحكم إلى ملك عضوض، ثم الأنظمة العربية لما بعد الاستقلال، هذه الظاهرة المبنية اجتماعياً وتاريخياً. وعمقت الأنظمة العربية هذه الظاهرة، من خلال المؤسسة الدينية المرتبطة بالسلطة (الإسلام الرسمي). ونشأ من هذه العلاقة المصلحية بين المؤسستين، السياسية والدينية، ما تسميه منى مكرم عبيد، "مجمع المصالح السياسي-الديني".
ومع مرور الزمن، تحولت مقولة طاعة أولي الأمر إلى سلاح فتاك لانتهاك الحريات، على الرغم من التناقض في المفردات الذي يعتريها: إن أولي الأمر هؤلاء نصبوا أنفسهم قائمين على الشأن العام بحد السيف، ومن ثم، لا شرعية لهم، ولا طاعة لمن لا شرعية له، مع العلم بأن الشرعية لا تعني الإذعان والخنوع لأهواء الحاكم. الحقيقة أن مقاربة الطاعة لا تكفي لشرح الإذعان الاجتماعي، وتجذر التسلطية في الواقع السياسي العربي.
القول بطاعة أولي الأمر يعطي الانطباع بأن العربي المسلم مذعن بطبعه، ومطيع بطبعه، للحاكم. وهذا إجحاف في حق السمة السياسية المعارضة التي ميّزت المجتمعات العربية، في الصراع مع السلطة على مر العصور. فالمعارضة السياسية في الإسلام كانت متأصلة، ولو بمسوّغ ديني. والتاريخ يشهد أن معارضة مؤسسة الخلافة كانت القاعدة، وكما لاحظ علي عبد الرّازق، فإن "مقام الخلافة الإسلامية كان منذ الخليفة الأول، أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، إلى يومنا هذا، عرضة للخارجين عليه المنكرين له، ولا يكاد التاريخ الإسلامي يعرف خليفةً، إلا عليه خارج، ولا جيلاً من الأجيال مضى، من دون أن يعرف مصرعاً من مصارع الخلفاء. نعم، ربما كان ذلك غالباً شأن الملوك في كل أمة، وكل ملة وجيل. ولكن، لا نظن أن أمة من الأمم تضارع المسلمين في ذلك. فإن معارضتهم الخلافة نشأت، إذ نشأت الخلافة نفسها، وبقيت بقاءها. ولحركة المعارضة هذه تاريخ كبير جدير بالاعتبار. وقد كانت المعارضة، أحياناً، تتخذ لها شكل قوة كبيرة، ذات نظام بيّن، كما فعل الخوارج في زمن علي بن أبي طالب، وكانت حيناً تسير تحت ستار الأنظمة الباطنية، كما كان لجماعة الاتحاد والترقي، مثلاً، وكانت
غالباً ما يُطنب في الحديث عن طاعة أولي الأمر، تجنباً للفتنة التي قد تفتك بالأمة، قديماً وحديثاً. فقد استخدمت دولة الخلافة فزاعة الفتنة، كما توظفها أنظمة ما بعد الاستقلال. وذلك عبر قراءة انتقائية للتراث، لبناء رواية تاريخية جديدة، تتوافق وأهواء الحكام. فالحديث عن طاعة الحكام يقود، حتماً، إلى قراءة انتقائية للتراث العربي-الإسلامي. فمثلاً، يغض دعاة طاعة أولي الأمر البصر عن الشق التنويري من التراث، مثل أعمال ابن رشد، وتحليله التسلطية ووحدانية السلطة، وفي ذلك إجحاف وظلم في حق الفقهاء والعلماء، خصوصاً مع سلخ بعض الأحداث التاريخية، الشاذة من سياقيها، وجعلها قاعدة، على الرغم من أن الشاذ يحفظ ولا يقاس عليه. وكما يلاحظ الفضل شلق، فهؤلاء العلماء لم يدعوا "إلى طاعة السلطان عادلاً كان أم جائراً، لأنهم كانوا أتباعاً له"، بل إن مواقفهم أملتها ظروف تاريخية وموضوعية محددة. فلا الماوردي، ولا أبو يعلى، ولا ابن جماعة، ولا ابن تيمية، كانوا تابعين للحكام.
والملاحظ أن هناك أفكاراً لابن تيمية يستشهد بها دعاة طاعة أولي الأمر في دول زماننا هذا، بينما أفكاره الأخرى مسكوت عنها. فمن يستدلون بمفاضلة ابن تيمية (تفضيل الخضوع للحاكم الجائر خوفاً من الفوضى) الظرفية، بسلخها عن سياقها التاريخي والسياسي، لا يستشهدون به لما قال (في رسالة الحسبة) "إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يُروى الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة‘". كما ينسون، أو يتناسون، أنه توفي في غياهب سجون السلاطين.
وبالنظر إلى تعثرات الربيع العربي، المفتعلة منها وغير المفتعلة، عادت بقوة مقولة طاعة أولي الأمر درعاً تقي الأمة من الفتنة، ليتربع منطق المفاضلات التعيس (إما يزيد أو السيف) على عرش الوعي السياسي العربي، في وقت تعيش فيه المنطقة محاولة لقطيعة معرفية، فيما يتعلق بالعلاقة بالسياسة والشأن العام. وتُستخدم هذه المقولة، راكبة موجة المخاوف من الحروب الأهلية (سورية وليبيا) ومن داعش ونظيراتها، كأحد أهم مسوغات الحكم في المنطقة العربية. ومن هذا المنظور، قد يقود الربيع العربي، أيضاً، إلى تدعيم التسلطية في عدة دول عربية.