في استخدام القضية الفلسطينية

03 نوفمبر 2015
+ الخط -
طوال عمر الصراع العربي ـ الإسرائيلي، شكلت القضية الفلسطينية تحدياً رئيسياً أمام العالم العربي مجتمعاً، وأمام كل دولة على حدة. وبحكم مركزيته، دخل هذا الصراع في المكونات الداخلية للدولة القُطرية العربية، وتم توظيفه في إطار الصراع الداخلي على السلطة، سواء كانت هذه الدولة قريبة من إسرائيل أو بعيدة عنها. وعلى مدى هذه العقود، بسبب الانشغال الدائم للسياسة العربية بالقضية الفلسطينية، لم يعد من الممكن تصور العالم العربي بدون قضية فلسطينية، فهي القضية التي تم التغطية من خلالها، لا على السياسات الداخلية الملتوية فحسب، بل تم التغطية من خلالها على جرائم داخل الدول القُطرية أيضاً، وكل مرة تحت شعار مركزية الصراع مع إسرائيل.
لم تكن هذه النظرة نظرة السلطات الرسمية العربية إلى القضية الفلسطينية فحسب، بل شملت كذلك المعارضات العربية، ومثقفين عرباً كثيرين، فالجميع انشغل بالصراع المركزي الذي اعتُبر "صراعاً وجودياً" بين العرب وإسرائيل. وأن على كل قوى سياسية عربية أن تحدد موقفها بوضوح من القضية الفلسطينية، وأن تكون فاعلاً مباشراً في هذا الصراع. وبالتالي، هي جزء مكون من القوى المصطفة (نظرياً) في الصراع مع إسرائيل، مصطفة في الصراعات الداخلية القُطرية (عملياً)، ما يعطيها الحق في أن تأخذ ما شاءت من المواقف، وأن تتدخل في الشؤون الفلسطينية، بشكل لا يمكن أن تتدخل فيه في دولة عربية أخرى، على قاعدة أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. وفي السنوات الأخيرة، لم تعد القضية الفلسطينية، قضية العرب وحدهم، بل باتت قضية العالم الإسلامي بوصف فلسطين "وقفاً إسلامياً"، على حد تعبير القوى الإسلامية الفلسطينية وغيرها. وبالتالي، ليس من حق الفلسطينيين، أو العرب، التصرف بما تملكه الأمة الإسلامية، وأي حل يجب أن يحظى بموافقة كل المسلمين، ويمكن أن نقول، تندراً، إنه بحاجة لموافقة أول مسلم موريتاني في الغرب، وصولاً حتى آخر مسلم في إندونيسيا والصين.
في إطار هذه النظرة الاستخدامية للصراع العربي ـ الإسرائيلي من السلطات العربية، أو
المعارضات، أو المثقفين أصحاب الأصوات العالية، يُعطى الفلسطينيون دوراً بوصفهم طليعة الصراع مع إسرائيل، والمتراس الأول الذي يجب أن يظل قائماً أبد الدهر، لأن الصراع لا نهائياً. ولأنه كذلك، لا تصلح فيه أي تسوية، ولا يتم التعاطي مع الفلسطينيين، بوصفهم بشرا يستحقون الحياة العادية، ويستحقون ألا يكونوا وقوداً مستمراً في محرقة الصراع المستمرة منذ أكثر من ستة عقود. ولا يتورّع بعضهم عن تحميل الفلسطينيين مسؤولية مهام تاريخية عجزت الدول العربية مجتمعة عن القيام بها. ويبدو أي حل لهذا الصراع يمس مكانة الصراع في المخيلة العربية مرفوضاً، على قاعدة أن هذه المكانة أهم من مصير الشعب الفلسطيني، الصامد والمناضل والمضحي والمقاتل... إلخ من التعبيرات الشعاراتية. ولكن، إلى متى؟ لا أحد يسأل نفسه هذا السؤال.
بحكم المكانة الكبيرة للصراع، ليس هناك مبرر لحله، فأي حل سيكون في مصلحة إسرائيل، لأن ميزان القوى مختل لصالحها، وهو ما سيعكس نفسه على أي حل، ما يُعطي إسرائيل مكاسب جديدة، ويدفع باتجاه تنازلات فلسطينية عن "حقوق تاريخية لا يحق لأحد التنازل عنها". وبذلك، تصبح الدولة الفلسطينية تسوية لمصلحة إسرائيل كيفما تم النظر إليها. ويقول بعضهم "ما فائدة أن تنضم دولة عربية جديدة إلى قائمة الدول القائمة"، وكأن الدولة الفلسطينية ستقتطع من دولة عربية أخرى، والخلفية الحقيقية لهذا الخطاب السياسي، قومياً كان أو إسلامياً، هو أن على الفلسطينيين أن يناضلوا بما يتجاوز ما يمكن تحقيقه، وما يتجاوز حتى حقوقهم التاريخية.
هذه نظرة لصراع مطلق، لا يمكن أن ينتهي إلا بزوال أحد الطرفين، وهي ليست نظرة سياسية، فالسياسة هي التي تتعامل مع الواقع، لا التي تضع مطلقات يجب الوصول إليها. والنظرة الواقعية للدولة الفلسطينية تنطلق أساساً، وبحكم المعطيات القائمة، من أنها دولة تولد (إذا ولدت) في سياق صراع، وهناك صعوبات كأداء أمامها، فهي لا تولد في سياق تحرير يُفرض على قوات احتلال، تولد على أثره دولة كاملة السيادة نتيجة انتصار تاريخي. ومن مفارقات الدولة الفلسطينية، أنها تأتي (إذا أتت) في سياق هزيمة عربية وفلسطينية، لكن هذا لا يقلل من أهميتها بوصفها "ستكرس التراجع في آلية توسع المشروع الصهيوني" الذي لم يعد قادراً على التوسع لأسباب ذاتية. وتؤكد على الرغم من الهزيمة التي أصابت الفلسطينيين والعرب "أن الشعب الفلسطيني نجا من الإلغاء". فجوهر المشروع الصهيوني يقوم على نفي وجود الشعب الفلسطيني وإنكاره، وفي سياق التسوية القائمة، تم الاعتراف جزئياً بالشعب الفلسطيني. ولا يسعى الفلسطينيون إلى بناء هذه الدولة في مواجهة الوضعين، الدولي والإقليمي، الذين هم أبرز ضحاياه في المنطقة، بل يبذلون جهدهم ليأتي متوافقاً مع هذا الوضع، فهم غير قادرين على تحديه بالمعنى المطلق.
إقامة هذه الدولة سيُرسم خروج الصراع العربي الإسرائيلي خارج النطاق الميداني، وستطرح بالتدريج أسئلة وإشكاليات جديدة، تواجه السلطات العربية والتيارات السياسية التي تغطت طويلاً بالقضية الفلسطينية، لكنها أيضاً ستضع إسرائيل أمام أسئلة وإشكاليات جديدة، وستختبر مدى قدرة هذا المجتمع على تصفية مكوناته العدوانية، فالمشكلة الفلسطينية ليست سؤالاً عربياً فحسب، بل هي أيضاً معضلة داخلية إسرائيلية. وعلى الرغم من كل التعقيدات التي تحيط بالعملية على المستوى العملي، وعدم قدرة إسرائيل على الحسم في هذا الشأن، فإنها، على المستوى النظري على الأقل، قابلة للتحقيق. ولا شك في أن قيام الدولة الفلسطينية التي سيكون ميلادها عسيراً، له إيجابيات كثيرة، وأيضاً له سلبيات، سيكون لها آثار مدمرة على أيديولوجيات وتكوينات فكرية وتكوين نفسي استوطنت العالم العربي، ربى نفسه عقوداً على ديمومة القضية الفلسطينية. وبعد حل هذه المشكلة، إذا أمكن تحقيقه، سنجد أنفسنا أمام فراغ، لا يعرف بعضهم كيف نملأه، فقد كانت القضية الفلسطينية نوعاً من حل لمشكلات عربية كثيرة. بذلك سيخسر العرب مخيالاً جمعياً عاشوا داخله طويلاً. لكن، بفضل التعنت والصلف والقمع الإسرائيلي أمامنا طريق طويل للوصول إلى هناك.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.