06 سبتمبر 2022
في أبعاد مأساة خاشقجي
تمرُّ الأيام، والمنطقة العربية تضجّ، أكثر من غيرها، بأحداثٍ مروِّعة غريبة، لا تستند إلى منطق عام، ولا تقبلها طبيعة عاقلة، فما بالكم بالمنطق الإنساني المعاصر..؟ يعتقد أنها إرهاصاتٌ لأحداثٍ واجبة الوقوع، بل هي آتية لا محالة، بفعل منطق التاريخ وعلم الاجتماع.
لا تزال جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، طازجة منذ أكثر من شهر، كأنَّما هي وليدة الساعة، إذ ما تني تتجلى في أذهان الناس أسئلةٌ وهواجس. فعلى الرغم من أدلة وبراهين كثيرة، أسماءً ووسائلَ وأدواتٍ وأمكنةً وصوراً وتسجيلاتِ صوتٍ، تؤكد جميعها ارتكاب الجريمة، وتشير إلى القاتل الفعلي المخطط للجريمة.. وعلى الرغم من توضيح ذلك الأمر عبر مئات نشرات الأخبار التلفزيونية، وآلاف المقالات الصحافية، وخطبٍ رسميةٍ كثيرة لرؤساء ووزراء ممن تناولوا الحدث، إلا أنَّ ذهنية العالم نهمة، لا تزال في توق لمعرفة المزيد.. لا لتأكيد ما بات معروفاً، فالكل متأكد من شخص القاتل الحقيقي، ومن الأسلوب البشع الذي مارسه فريق القتلة لدى ارتكابهم جريمتهم. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال العالم دائم البحث عما يريح النفس البشرية من هواجسها السياسية، والإنسانية، بسببٍ واضح يُقنع بدوافع ارتكاب مثل تلك الجريمة، فكل ما قيل وسمع حتى الآن لا يبرّر الجريمة مطلقاً. ولا الشريط المسجل للمغدور الذي كانت "العربي الجديد" قد نشرته في موقعها. فما فيه أكثر من وصفٍ لنظام الحكم في وطنه الذي أحبه، فانتقد حاكميه كأي صحافي يقوم بواجبه، من دون إساءة لشخص ما.
كثيرون هم الذين يضعون اليوم أيديهم على قلوبهم خشية موت قضية الصحافي جمال خاشقجي بالتقادم، أو يجري الالتفاف على جوهرها الذي يتلخص في أهمية معرفة الجاني الحقيقي،
وخلفية دوافعه وأبعادها، ومن ثمَّ محاكمته على ارتكابه هذه الجريمة الأبشع في حياتنا المعاصرة، سواء في ما خطّط لها، أم بالأسلوب الذي مارسه عبيد السلطة والسلطان لدى اقترافهم إياها.
وقد يسأل سائل لماذا هذه الخشية..؟ الجواب لأن هذه الجريمة البشعة تأتي لتصبّ في طاحونة الدم التي تدار يومياً على أرواح آلاف الأبرياء في كل من سورية واليمن والعراق. وعبر أساليب ربما لا تقل فظاعةً عن الجريمة المرتكبة بحق المغدور جمال خاشقجي. إذ تقوم الجيوش والمليشيات والأجهزة الأمنية، هنا وهناك، بفظائع لا يمكن لخيال بشري أن يتصورها. وهي جرائم معلنة، وموصوفة، ومشاهدةٌ بالعين المجرّدة، كما جرى ويجري، على سبيل المثال، في السجون السورية التي وثقها قيصر، بل قياصرة كثر آخرون، وضعوها أمام الأمم المتحدة التي لم تفعل شيئاً ذا بال حتى اللحظة، اللهم إلا إذا استثنينا القضاء الفرنسي الذي أصدر قبل أيام مذكرة بحث بأسماء سورية ثلاثة، ناهيكم عن استخدام السلاح الكيميائي الذي أودى بحياة آلاف الأطفال، وما زال المسؤولون عنها في مأمن..؟
يشير ذلك كله إلى أمرٍ واحد، لا كما يتصوّره بعضهم أن العالم قد هزّته قضية خاشقجي إنسانياً، فالتفت إليها ربما أكثر من التفاته إلى ذلك الكم الهائل من الجرائم التي تحصل حوله. لا ليس كذلك، فالأمر لا يعود إلى تناقضٍ، بل إلى توافق وتأكيد، فما استنكار هذه الجريمة إلا استنكار لكل تلك الجرائم المشابهة، وهو رفضٌ لكل هذه الأساليب الإجرامية، إذ إنَّ ثمة خيطاً يربط بين هذه وتلك، خيطاً يقول: إن المجرم واحد. إنه الاستبداد السياسي/ الإقطاعي الذي ودعه العالم منذ زمن، وصار خلف تقدّمه الإنساني، وخلف حضارته. وآن له أن يرحل بأشكاله كافة، فهو المسؤول الأول والأخير. وهنا جوهر القضية وبيت قصيدها، فالعالم تغير كثيراً، وتقدَّم أكثر، ومن لا يتقدّم معه يتقادم وينسى.. هذا التقدم يدركه اليوم أطفال تلك الممالك والجمهوريات وشبابها من الذين يعبثون بألعابهم الإلكترونية، فما عادت الإيديولوجيات تستر عورة أحد، وهذه الأجهزة تنتشر في حياتنا.
صحيحٌ أنَّ جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي لا تزال تلم غباراً كلَّما تقدم بها الزمن، وتضيِّق الخناق على القتلة أجمعين، إلا أن القاتل الحقيقي لا يزال يعوّلِ كثيراً على تقادم الزمن، وعلى شراء الذمم بما تحت يده من أموالٍ وجاهٍ وسلطةٍ، تمكّن له الهروب مما اقترفت يداه..! على الرغم من أن أصحاب الذمم يعرفون "البير وغطاه"، ويعرفون كيف يكون الابتزاز، فلكل حالٍ ثمنٌ يحدّده المنشار الماسي للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فهذا المنشار مصمم ليسري صعوداً وهبوطاً! وربما يعلل صاحبه النفس والذهن بأن الحجز على أموال السفهاء قاعدةٌ شرعيةٌ إسلامية، فيكون القاضي الشرعي حين يغيب القضاة.
"وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا" (سورة النساء، الآية 5)، والسفيه كما هو معروف ناقص عقل، مبذّر للمال، لا يحسن التصرف به.
وفي عودة إلى تاريخ المملكة العربية السعودية، وإلى مراحل التأسيس الأولى، سالت دماءُ
كثيرةٌ، لا بين السعوديين وخصومهم فقط، ممن تنازعوا على الأرض والحكم، بل بين الإخوة أنفسهم. وليست هذه المقالة في وارد التفصيل فيها، وإنما تشير إلى فترة اكتشاف النفط فحسب، إذ الرعاية الإنكليزية للسلطنة الصاعدة قائمة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لتتولاها بعدئذ الولايات المتحدة، ولتضع يدها على النفط، وتتعهد بحماية المملكة العتيدة. ثمَّ لا يظنن أحد أن المملكة لا دستور لها، ولا قوانين تحكمها، أبداً، فهي كأية دولة متحضرة معاصرة.. فـ"في 12 جمادى الأولى 1351هـ الموافق 10 أغسطس/ (آب) 1932م انعقد بالطائف اجتماع للعلماء والأعيان وممثلي رعايا المملكة وجمع من المواطنين، فرأوا ضرورة تغيير مسمّى الدولة من مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها إلى مسمى يظهر الدولة كوحدة متكاملة.. وعلى ضوء نتائج ذلك الاجتماع تم تغيير الاسم إلى المملكة العربية السعودية". ووفقاً لآخر تحديث للنظام الأساسي للحكم الذي أصدر عام 1412هـ/ 1992، فإن "المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولغتها هي اللغة العربية، وعاصمتها مدينة الرياض. ونظام الحكم فيها ملكي، ويكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود وفي أبناء الأبناء، ويبايع الأصلح منهم للحكم على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ويستمد الحكم في المملكة سلطته من كتاب الله وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة، ويقوم الحكم على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية".
لنلاحظ كم تردّدت في النص السابق عبارات كتاب الله، وسنة رسوله، وصلى الله عليه وسلم. إضافة إلى الشورى، والمساواة، ووفق الشريعة الإسلامية، ومبايعة الأصلح للحكم. ويبقى السؤال الأهم: تُرى، تحت أية عبارةٍ جاءت جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي..؟
لا تزال جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، طازجة منذ أكثر من شهر، كأنَّما هي وليدة الساعة، إذ ما تني تتجلى في أذهان الناس أسئلةٌ وهواجس. فعلى الرغم من أدلة وبراهين كثيرة، أسماءً ووسائلَ وأدواتٍ وأمكنةً وصوراً وتسجيلاتِ صوتٍ، تؤكد جميعها ارتكاب الجريمة، وتشير إلى القاتل الفعلي المخطط للجريمة.. وعلى الرغم من توضيح ذلك الأمر عبر مئات نشرات الأخبار التلفزيونية، وآلاف المقالات الصحافية، وخطبٍ رسميةٍ كثيرة لرؤساء ووزراء ممن تناولوا الحدث، إلا أنَّ ذهنية العالم نهمة، لا تزال في توق لمعرفة المزيد.. لا لتأكيد ما بات معروفاً، فالكل متأكد من شخص القاتل الحقيقي، ومن الأسلوب البشع الذي مارسه فريق القتلة لدى ارتكابهم جريمتهم. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال العالم دائم البحث عما يريح النفس البشرية من هواجسها السياسية، والإنسانية، بسببٍ واضح يُقنع بدوافع ارتكاب مثل تلك الجريمة، فكل ما قيل وسمع حتى الآن لا يبرّر الجريمة مطلقاً. ولا الشريط المسجل للمغدور الذي كانت "العربي الجديد" قد نشرته في موقعها. فما فيه أكثر من وصفٍ لنظام الحكم في وطنه الذي أحبه، فانتقد حاكميه كأي صحافي يقوم بواجبه، من دون إساءة لشخص ما.
كثيرون هم الذين يضعون اليوم أيديهم على قلوبهم خشية موت قضية الصحافي جمال خاشقجي بالتقادم، أو يجري الالتفاف على جوهرها الذي يتلخص في أهمية معرفة الجاني الحقيقي،
وقد يسأل سائل لماذا هذه الخشية..؟ الجواب لأن هذه الجريمة البشعة تأتي لتصبّ في طاحونة الدم التي تدار يومياً على أرواح آلاف الأبرياء في كل من سورية واليمن والعراق. وعبر أساليب ربما لا تقل فظاعةً عن الجريمة المرتكبة بحق المغدور جمال خاشقجي. إذ تقوم الجيوش والمليشيات والأجهزة الأمنية، هنا وهناك، بفظائع لا يمكن لخيال بشري أن يتصورها. وهي جرائم معلنة، وموصوفة، ومشاهدةٌ بالعين المجرّدة، كما جرى ويجري، على سبيل المثال، في السجون السورية التي وثقها قيصر، بل قياصرة كثر آخرون، وضعوها أمام الأمم المتحدة التي لم تفعل شيئاً ذا بال حتى اللحظة، اللهم إلا إذا استثنينا القضاء الفرنسي الذي أصدر قبل أيام مذكرة بحث بأسماء سورية ثلاثة، ناهيكم عن استخدام السلاح الكيميائي الذي أودى بحياة آلاف الأطفال، وما زال المسؤولون عنها في مأمن..؟
يشير ذلك كله إلى أمرٍ واحد، لا كما يتصوّره بعضهم أن العالم قد هزّته قضية خاشقجي إنسانياً، فالتفت إليها ربما أكثر من التفاته إلى ذلك الكم الهائل من الجرائم التي تحصل حوله. لا ليس كذلك، فالأمر لا يعود إلى تناقضٍ، بل إلى توافق وتأكيد، فما استنكار هذه الجريمة إلا استنكار لكل تلك الجرائم المشابهة، وهو رفضٌ لكل هذه الأساليب الإجرامية، إذ إنَّ ثمة خيطاً يربط بين هذه وتلك، خيطاً يقول: إن المجرم واحد. إنه الاستبداد السياسي/ الإقطاعي الذي ودعه العالم منذ زمن، وصار خلف تقدّمه الإنساني، وخلف حضارته. وآن له أن يرحل بأشكاله كافة، فهو المسؤول الأول والأخير. وهنا جوهر القضية وبيت قصيدها، فالعالم تغير كثيراً، وتقدَّم أكثر، ومن لا يتقدّم معه يتقادم وينسى.. هذا التقدم يدركه اليوم أطفال تلك الممالك والجمهوريات وشبابها من الذين يعبثون بألعابهم الإلكترونية، فما عادت الإيديولوجيات تستر عورة أحد، وهذه الأجهزة تنتشر في حياتنا.
صحيحٌ أنَّ جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي لا تزال تلم غباراً كلَّما تقدم بها الزمن، وتضيِّق الخناق على القتلة أجمعين، إلا أن القاتل الحقيقي لا يزال يعوّلِ كثيراً على تقادم الزمن، وعلى شراء الذمم بما تحت يده من أموالٍ وجاهٍ وسلطةٍ، تمكّن له الهروب مما اقترفت يداه..! على الرغم من أن أصحاب الذمم يعرفون "البير وغطاه"، ويعرفون كيف يكون الابتزاز، فلكل حالٍ ثمنٌ يحدّده المنشار الماسي للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فهذا المنشار مصمم ليسري صعوداً وهبوطاً! وربما يعلل صاحبه النفس والذهن بأن الحجز على أموال السفهاء قاعدةٌ شرعيةٌ إسلامية، فيكون القاضي الشرعي حين يغيب القضاة.
"وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا" (سورة النساء، الآية 5)، والسفيه كما هو معروف ناقص عقل، مبذّر للمال، لا يحسن التصرف به.
وفي عودة إلى تاريخ المملكة العربية السعودية، وإلى مراحل التأسيس الأولى، سالت دماءُ
لنلاحظ كم تردّدت في النص السابق عبارات كتاب الله، وسنة رسوله، وصلى الله عليه وسلم. إضافة إلى الشورى، والمساواة، ووفق الشريعة الإسلامية، ومبايعة الأصلح للحكم. ويبقى السؤال الأهم: تُرى، تحت أية عبارةٍ جاءت جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي..؟