فيلم إسرائيلي يستغل أجواء ما بعد شارلي

03 فبراير 2015
+ الخط -
إذا أراد الإسرائيليون تقديم صورة مقبولة عنهم للعالَم الغربي بالطبع، فلن تكون سوى صُوَر لقاءات زعماء إسرائيل في أوسلو مع الزعماء الفلسطينيين، وهم يوقّعون ما أرادوه من اتفاق سلام، ثمّ صورهم وهمّ يتسلّمون جوائز نوبل للسلام. وبالطبع يتصدّر رئيس الوزراء إسحق رابين المشهد باعتباره صانعًا للسلام. وإذا أراد الإسرائيليون اختيار فترة من تاريخ دولتهم على أرض فلسطين التاريخية يمكن تقديمها للخارج، بعيدًا من الحروب الكثيرة مع الجيران ومع الشعب الفلسطيني في الداخل، فلن يجدوا أفضل من هذه الفترة التي توهَّمَ العالَم فيها أن إسرائيل ستبدأ، أخيرًا، في تسليم أراضٍ (وليس الأراضي) للفلسطينيين. 
هذه الفترة الزمنية بالضبط، أي عام 1995، هي التي اختارتها المخرجة الإسرائيلية شيريل أميتاي إطارًا زمنيًا لفيلمها الخفيف؛ "موعد في عتليت". الذي يتحدّث عن ثلاث أخوات فرانكفونيات أي ناطقات بالفرنسية (وليس هذا الأمر تفصيلًا بل شرطٌ للحصول على تمويل فرنسي) يقرّرن العودة إلى عتليت؛ بـ"اعتبارها بلدة من بلدات الجليل" بعد أربع سنوات من وفاة والديهم. هناك، في بيتهنّ الذي ورثنه، ويقيم فيه فلسطيني بـ"صفة غير شرعية"، يَستَعِدْن أجزاء من تاريخهن وذاكرتهن. لا يخلو اللقاء من لحظات انسجام وصراعات وتمزّقات، يساعد البيت على بثّها، فتبدأ شظايا الذاكرة بالعودة، وكذلك الأشباح التي لم تغادر البيت. صحيح أنها صراعات موجودة في كلّ العائلات، لكن المخرجة أرادت الانطلاق منها والتركيز عليها لتُؤنْسِنَ اليهودي، وتقول للمشاهد؛ إن اليهودي كالآخرين يتألّم ويحزن. 
تستغل المخرجة الأجواء التي رافقت أوسلو وتظاهرات حركة "السلام الآن" الإسرائيلية، التي كشفت سأم الإسرائيليين من أجواء الحرب السائدة في إسرائيل منذ تأسيسها، وأيضا خطاب إسحق رابين الأخير، الذي ينظر إليه كثير من الإسرائيليين باعتباره أعظم الخطابات السياسية في تاريخ إسرائيل. بل وتقحم رابين وهو يخطب ويتحدّث عن شريك فلسطيني للسلام، قاصدًا الرئيس الراحل ياسر عرفات. ففي وقت بدأت فيه إسرائيل عملية تجميل لوجهها الاستعماري والعنصري في فلسطين، طفقت شرائح من المجتمع الإسرائيلي بتبني موقف رابين متمنيةً له النجاح، ليس لأنها تريد فعلًا الاعتراف بخطئها التاريخي تجاه الشعب الفلسطيني، بل لأنها تثق في رئيس وزرائها، المعروف بتشدّده ومشاركته في كلّ حروب إسرائيل وجرائمها، إذ كان عامل تطمين لشرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي التي تدرك أنه لن يُقدم "تنازلات" كبيرة للفلسطينيين. 
لا شيء تُرِكَ للمصادفة في الفيلم. فاختيار ممثلات يهوديات من أصول عربية مختلفة؛ مغربية وجزائرية وتونسية (كالي/جيرالدين نقاش، وداريل/يائيل أبيكاسيس، وآسيا/جوديث شيملا)، يمنح الكثير من الصدقيّة للفكرة الصهيونية القائلة إن إسرائيل أرضٌ قومية لجميع اليهود في العالم. كما أن اختيار ممثل فلسطيني هو مكرم خوري، من مواليد القدس، يعطي للمشاهد الذي قد يستهويه خطاب السلام الساذج، الذي يعبّر عنه الفيلم بسطحية بالغة، وَهْمًا بأن الإسرائيليين قد تغيّروا ولم يعودوا يتبنون أفكار زعمائهم السابقين الذين نفوا وجود إنسان اسمه الفلسطيني. لكن الدور الذي حظي به الفلسطيني ما كان ممكنًا إلا أن يكون ثانويًا، لأن الفيلم لا يتوجه للآخَر أي الفلسطيني، بل يُصادفهُ ولا يمكن له تجاهله. 
يتحدث الفيلم عن المجتمع الإسرائيلي، محاولًا زرع "الأمل"؛ أملٌ في بيت واحد بين أخوات، يتفقن ثم يختلفن. وأملٌ أن يعيش اليهودي في سلام مع تاريخه وماضيه وجنونه. وأخيرًا، لأن الفلسطيني موجودٌ، رغم أنف الجميع، فلا مانع من محاولة إيجاد قنوات اتصالات معه لا ترقى للندّية والشراكة الحقيقيتين. أمل 1995 هو قبل أي شيء، أمَلٌ لليهود في العيش في أمن وسكينة، بيد أن مقتل رابين وهو ينزل من المنصّة بعد إلقاء "خطاب سلام تاريخي"، أعلن فيه، أخيرًا، عن ظهور شريك سلام فلسطيني، كان انهيارًا لهذا الأمل. فبسبب صدمة الاغتيال، تجد الأخوات أنفسهن مدفوعات للاحتفاظ بأمَلِهِنَّ في البيت، أي بإسرائيل وبأنفسهن. وهذه هي الفكرة الصهيونية إجمالًا، أن اليهودي لا يملك في وقت الشدّة سوى إظهار الصمود والقوّة والأمَل. فلم يكن إقحام مشهد الخطاب وتظاهرات "السلام الآن" سوى ديكورٍ خافت لخدمة هدف الفيلم الذي يتضمن تدفّق اليهود، من كلّ حدب وصوب، على إسرائيل. ففي حقيقة الأمر لا شيء يربط بين مَشاغل هؤلاء الأخوات، وبين الأجواء التي كانت إسرائيل تعيشها بعد أوسلو، ورفض قطاعات واسعة من اليمين الإسرائيلي واليمين المتطرّف التنازل عن أي شيء للفلسطينيين. 
صحيح أن الفيلم يرسم علاقات بين ثلاث أخوات يهوديات، بيد أن إغفال الفلسطينيين وإغفال تاريخ المكان، لا يفعلُ سوى إذكاء هذه البروباغندا الإسرائيلية الفرنسية، التي لا تريد أن تتغير. بروباغاندا تدفع المراقب الأجنبي لأن يتصوّر بأنه في دولة إسرائيل لا وجود إلا لليهود، وأن لا مشاكل لها مع جيرانها العرب. وليس غريبًا أن يظهر الفيلم في وقت تناسى فيه العالم مآسي الشعب الفلسطيني، وأصبح كلّه منهمكًا في محاربة "الإرهاب" و"الدولة الإسلامية"، وفي وقت يأتي بنيامين نتنياهو ووزراؤه الأكثر دموية في تاريخ إسرائيل، ليتظاهر مع قادة دول عربية وأجنبية في باريس إدانةً للاعتداءات على صحيفة "شارلي إيبدو". فالفيلم محظوظ باستفادته من أجواء فترة ما بعد الاعتداء على الصحيفة. 
لا يخلو الفيلم من مقاطع تخفي براءة مصطنعة، مثل مشهد تخاطب أختٌ أختَيْها: "هذا البيت يجب أن يُسلَّم إلى الأمم المتحدة، ويُوضَع تحت سلطة مُحايدة". كما لو أن في إسرائيل ثمّة من يعترف، حقيقة، بدورٍ مَا للأمم المتحدة التي يتهمها الفلسطينيون، عن حقّ، بأنها التي صنعت هذا الكيان الغريب.


المساهمون