والفيلم الذي قدمته مساء أمس مؤسسة الدوحة للأفلام في متحف الفن الإسلامي ضمن عروض "إصدارات معاصرة"، صدر في سبتمبر/أيلول عام 2018 وهو الثالث لنايشتات (33 عاماً)، الذي شق طريقه بفيلم ذي عنوان واضح الهواجس "تاريخ الخوف" 2014.
وكان العرض الأول للفيلم في الثلث الأخير من العام، وهي الفترة التي يعيشها مشاهد الفيلم (109 دقائق) في الأرجنتين نهاية عام 1975، أي الأشهر التي سبقت الانقلاب العسكري في مارس/ آذار 1976.
وأغلب ممثلي الفيلم عايشوا حقيقة هذه المرحلة الأسوأ في سلسلة الدكتاتوريات المتوالية. أما المخرج وهو مواليد 1986 فلجأ إلى أرشيف عائلته واستلهم منه السيناريو الذي كتبه وأخرجه.
هناك حبكة رئيسية، وحبكات فرعية تبدو مثل قطع منعزلة المصير، وهذا ما أراده المخرج. ليس مهماً الوصول إلى حلول ميلودرامية، بل وضع المشاهد في كوابيس غير متسلسلة، إلا أن اللعبة مقبولة مع كل الضيق الذي تخلفه، فالكوابيس لها قانونها، وهي أنها عاصفة، الخوف منها أشد مضاضة من وقوعها.
المشهد الافتتاحي لأصحاب بيت يغادرون ويحملون معهم ما خف حمله، بلا أي وجهة سوى أن يتركوا البيت، قبل أن يأتي الغد ومجهوله. هذا المشهد لن يكون ذا وقع مؤلم إلا بعد منتصف الفيلم، حين تكون مغادرة البيت هرباً من إرهاب الدولة الذي تديره تحت شعارات كبرى.
وبطريقته السينمائية ينهي المخرج مشهده، بالدخول إلى الأزمة الرئيسية، في مطعم، حيث يجلس المحامي رفيع المستوى كلاوديو الذي يؤدي دوره داريو غرانديتي، بطل فيلمين شهيرين سابقين "Talk to Her" و"Wild Tales"، في انتظار زوجته سوزانا (أندريا فريجيريو) التي تأخرت عن موعدها.
في الأثناء يبرز شخص غريب (دييغو كريمونيسي) بسحنة وعينين زرقاوين تشيران إلى أصله الألماني. الغريب يطلب من المحامي أن يترك الطاولة لأن الوقت مضى ولم يطلب لائحة الطعام، وعليه فإنه أولى بالجلوس مكانه، وإذا كان عليه انتظار زوجته فلينتظرها عند الباب، ويتيح له فرصة الجلوس وتناول الطعام.
رغم فجاجة الطلب، إلا أن المحامي يوافق ويقف عند الباب، لكنه فجأة يعطي الغريب درساً في الأخلاق، بل يحلل شخصيته العصابية، الناجمة عن قلة التربية وشذوذه النفسي، وأن معاناته ستتواصل حين يرى الناس أصحاء بينما هو غير سوي، والسبب دائماً أنه لم يحصل على تربية مناسبة، تعلمه كيف يستأذن الناس ويعاملهم بلياقة.
يطرق الغريب ثم ينفجر فجأة محطماً المطعم، وهو يصيح "إنكم نازيون" قبل أن تتم السيطرة عليه ويلقى به خارجاً، مع قدوم زوجة المحامي الخمسينية الحسناء، التي تسبب تأخيرها بما حدث، لتجلس مع زوجها المحامي المحترم في مجتمعه، والذي أظهره الفيلم بقيافة السبعينيات بشكل موفق.
كان داريو غرانديتي من شريحة محامين رفيعة، بصلعته المضيئة وشاربه الموزون، وسالفيه العريضين، ضمن موضة السوالف التي اشتهرت في الستينيات والسبعينيات.
لن ينتهي الأمر على خير، فالمحامي بصحبة زوجته ولدى عودتهما إلى البيت، سيعترض الغريب سيارتهما ويهاجمها بالحجارة، ويجرح الزجاج المحطم وجه الزوجة، ويطارد المحامي، الغريب، الذي صارعه، ثم يخرج مسدساً، هدد به، وفجأة يطلق رصاصة في الهواء، أعقبها بطلقة في رأسه.
كان الغريب يشهق، وربما كانت لديه فرصة للنجاة من الموت. يحمله المحامي بسيارته، لكنه لا يعثر على أطباء مناوبين لمعالجته، فيطلب من زوجته المكوث في البيت، وبدل أن يبحث عن منقذ طبي، يختار الذهاب إلى الصحراء، ويترك الغريب يواصل تنفسه المتقطع ويموت ببطء.
في الأشهر الثلاثة التالية، ستكون هذه الحبكة التي لا يعرف المشاهد مصيرها، مجالاً لعرض تشوهات المجتمع. أين ذهب الغريب؟ هل وجد من يسعفه؟ هل سيظهر فجأة؟ ماذا حل بجثته؟
كان المجال واسعاً أمام المخرج وكاتب النص أيضاً لأن يلعب لعبته. فالخوف، ينتج تشوهات عميقة. النفاق الاجتماعي والاحتيال والفهلوة والانتهازية تزدهر في مناخ خائف.
المحامي رفيع المستوى يتورط في تزوير بيع البيت مقابل حصة مالية، البيت الذي غادره أهله لأنهم خائفون. وابنته المراهقة بولا، لورا غرانديتي (ابنة الممثل داريو غرانديتي) تنخرط مع جيلها الشاب في علاقات معقدة، يصبغها العنف.
حتى المحامي وزوجته، وهما من طبقة اجتماعية ذات وفرة مالية، يقعان تحت حالة القلق السياسي وبوادر الانهيار. ويأتي المخرج بالزوجين إلى شاطئ يحتفل فيه الناس بمراقبة كسوف الشمس، حيث ستكون الأشعة المرصودة حمراء قانية، بما في ذلك من دلالة، على القادم.
يقدم الفيلم شخصية هامة في ثلثه الأخير، وهي النجم التلفزيوني والمحقق الأمني السابق سنكلير الذي يؤدي دوره الممثل ألفريد كاسترو، وهو من سيكشف الجريمة، ويجبر المحامي على الذهاب إلى الصحراء.
المشهد الذي سينهار فيه المحامي رفيع المستوى سيكشف أي نوع من الرجال الأمنيين الذي يمثله سنكلير. إنه مرتزق ويعمل لحساب أي نظام، بل يصبح نجماً تلفزيونياً، وعلى ذلك هو شخص متدين لا ينقطع عن الكنيسة، بما يشير إلى اللعبة التي تتكرر في غير مكان من هذا العالم، حين يستثمر الدين في تثبيت أركان الدولة.
فيلم "روخو" الذي حقق حضوراً جيداً في المحافل السينمائية، يشعر أي مشاهد في أي مكان من العالم بأنه يخصه على نحو ما. إنه يلعب في منطقة الخوف التي جبلت عليها البشرية، وتحولت إلى صناعة مربحة بتكاليف رخيصة: الدم.