فيلمان عن فساد البرازيل: سينما تفيض جمالاً

27 ديسمبر 2019
"3 أصياف": سيطرة سينمائية على النصّ (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
لا وجود ملحوظاً لـ"أسود" أو "أبيض" في معظم مقاربات السينما البرازيلية للمشهد السياسي غير المُرضِي. هذا الغياب جلي في أفلام غير قليلة، ظهرت في العقد الأخير، واهتمّت بنقل أحوال بلدٍ انتشر فيه الفساد السياسي، وزاد ثراء طبقات منه على حساب أخرى فقيرة، ويشهد اليوم انقساماً مجتمعياً حادّاً. بعض تلك الأفلام ظلّ على مسافة منها، حتى وهو ينغمس في معالجتها، وغَلبَت وظيفته الجمالية على الانحياز السياسي الفجّ. لعلّ مردّ ذلك تقاليد سينمائية عريقة، تُعلِم مبدعيها التَفريق بين الموقف السياسي والاشتغال السينمائي.

فيلمان جديدان (إنتاج 2019) مندرجان في هذا الإطار: "الكاشف" لبرناردو بارّيتو (1979)، و"3 أصياف" لساندرا كوغوت (1965). فاز الأول بجائزة لجنة التحكيم (مناصفة مع "أسماء الزهور" للكندي الإيراني بهمان تافووزي)، في مسابقة الفيلم الأول، في الدورة الـ23 (15 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 1 ديسمبر/ كانون الأول 2019) لـ"مهرجان أفلام الليالي السوداء في تالين (أستونيا)"؛ بينما عُرض الثاني في الدورة الـ21 (9 ـ 19 ديسمبر/ كانون الأول 2019) لـ"مهرجان ريو دي جانيرو السينمائي الدولي".

مقاربتان للمشهد البرازيلي، فيهما تغليبٌ للإنساني، وإبعادٌ لـ"كليشيهات" الصراع الطبقي. فيلمان يذهبان إلى الأعمق، وإلى المتبقّي في شخصياتهما ملتبسة السلوك، التي يصعب تطبيق معادلة "الخير ـ الشر" عليها. فيلمان يجمعان أبطالهما في مكان مغلق (فيلّات واسعة)، لا يخرجون منه إلّا لماماً. وضعٌ "لوجستي" يفرض على مُصوّري مَشاهدهما حمل الكاميرا والركض وراء الممثلين طيلة الوقت، ويفرض على الممثّلين أنفسهم التزاماً صارماً بالسيناريو، منعاً للتشتّت والانفلات.

فلا بارّيتو يريد تجاوز أعراف الصنعة التقليدية، رغم قرب أسلوبه من اشتغالات روّاد "دوغما 95"، واقتراب حبكته (سيناريو مارتن بروتشي) من "الحفل" (1998) للدنماركي توماس فينتربيرغ (1969)؛ ولا كوغوت تنشد لأبطالها حركة غير مُسيطَر عليها، مع وجود كل ما يَشدّ إليها. سيطرتها على نصٍّ (سيناريو كوغوت وإيانا كوسّوي بارو) ـ تكثر فيه الحركة السريعة والحوارات القصيرة ـ متأتية من خبرة راكمتها خلال عملها في "المساحة الواسعة" (2015) و"موتوم" (2007)، والوثائقي "الجواز الهنغاري" (2001).
في مناسبتين اثنتين، اجتمع حشدٌ من البشر، متناقضي المشاعر والمواقف السياسية. خلالهما، طفت انفعالاتهم، وكشفت حدّتها عن مكنونات عاطفية ونفسية معقّدة، تحرّرت لحظة وجودهم معاً في مكان ضيّق، لا يسمح بالتستر عليها طويلاً.

في "الكاشف"، جاء جوفياني (بيريه سانتوس) مع صديقته إيزابيل (ماريانا مولينا) من كومونة (أسّساها على أطراف غابة مع أشباههم) للاحتفال بعيد الأب، أفونسو (ماريو هيرمتو). علاقة إيزابيل بعائلتها الغنية منقطعة منذ 4 أعوام، أي منذ تعرّفها إلى الشاب الفقير، المناصر لحماية البيئة وللعودة إلى العيش بحرية في الطبيعة، بعيداً عن صخب المدن. في "فيلّا" والدها، ليلة الاحتفال، يعاد سرد تواريخ وعلاقات، وتتكشّف سلوكيات ومواقف متعارضة. يحدث هذا نفسه تقريباً في "فيلّا" الثري إدغار (أوتافيو مولر)، ليلة إعداده الحفل الصيفي الذي اعتاد تنظيمه أعواماً عديدة، لجمع الأصحاب فيه. في "3 أصياف"، الأب منزوٍ، وضعيف الحركة، يراقب بحزن كلّ ما يجري في بيت ابنه. علاقتهما غامضة، لا ودّ فيها ولا حميمية.

التعبير عن الاحتدام السياسي يأتي من خارج "الفيلّات"، وينعكس على الموجودين فيها. بيت أفونسو، السياسي المتنفِّذ محاصرٌ بجمهور غاضب، يطالب بمحاكمته لفساده ولجمعه ثروة كبيرة بالاحتيال والفساد. أصواتهم الهادرة الغاضبة طيلة الفيلم لم تنقطع عن الوصول إلى داخل "الفيلّا"، والمحتفلون فيها يتظاهرون بتجاهلها. بوجوده الطارئ فيها، يُصبح جوفياني شاهداً وكاشفاً عن تفكّك عاطفي، وتآمرٍ غير منقطع للحفاظ على ثراء مهدّد بالزوال.

التهديد بفقدان السلطة يظهر بوضوح أكبر في منجز ساندرا كوغوت. في الصيف الثاني (2016)، تداهم الشرطة وموظفو دائرة الضريبة "فيلّا" إدغار ويفتّشونها. يأخذون وثائق تدينه بالتلاعب والفساد. طيلة الأصياف الـ3 (بين عامي 2015 و2017)، تشهد الخادمة مادا (ريجينا كاسه) على انهيار قِيَم وغياب ضمير. هي وجوفياني يجدان نفسيهما في موضع المُراقب لا الحسيب.

السيناريوهان في الفيلمين مكتوبان بذكاء وحذاقة. يجمعان بين الكوميديا والتراجيديا. يترفّعان عن الخوض في خطابية سياسية ساذجة. لم يقدّما مرافعات اتّهام لنظام فاسد، ولم يُدينا "الأشرار" بالكامل. هذا عائد ربما إلى رؤية سينمائية حريصة على إبقاء الحدود بين الأبيض والأسود قائمة، كما هي في الحياة فعلاً.

نص "3 أصياف" يُعطي الخادمة دوراً رئيسياً، قبل ابتكاره انقلاباً في توزيع الأدوار وتطوّر الأحداث بإعادة الاعتبار إلى الأب ليرا (روغيريو فرويس). الخادمة تتمتّع بقدرة عالية على المناورة، ولعب دور مُطفئة الحرائق. الحياة تُعلّمها تجنّب التصادم. وحين تجد نفسها في الصيف الثالث متسيّدة في البيت، بعد هروب مالكه، لا تتجاوز حدودها، فالتجربة علّمتها ألّا تقفز فوقها عالياً. إخلاصها وبساطة طباعها يُقرّبانها من الأب، الذي يختار عزلته احتجاجاً على ولد يسمح لنفسه بسرقة أموال مدارس ومستشفيات. غاضبٌ على فشله في تربية ابنه، هو المعلم الذي يُحبّ القراءة، ويريد نشرها بين طلّابه، يرى بعينيه انهيار قيمه، في أقرب الناس إليه.
على العلاقة الإنسانية بين الخادمة وبينه، يمضي الفيلم في مساره تصاعدياً نحو نهاية لا تدين أحداً بقسوة. هناك ندم طافح لفشل في تحقيق أحلام وتلبية طموحات، وهناك جشع وفساد لا يمكنهما، مهما يبلغان من شدّة، إلغاء علاقات أُسرية بسهولة. هذا ما يُفاجئ به "الكاشف" جمهورَه. للسيناريو (برناردو بارّيتو ومارتِن بروتشي) نهاية غير متوقعة. فرغم تصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد أفونسو، واقتحام محقّقي الشرطة بيته، وكشفهم ملفات فساد تُدينه، ومع انفجار العلاقة بينه وبين ابنته، يعرض المشهد الختامي بقايا علاقة عاطفية، وحبّ بينهما لم ينقطع.

في مشهد آخر، يظهر جوفياني وإيزابيل قرب ضفة النهر، يتوسطهما طفلهما الصغير وهو منهمك في الردّ بكلمات غير مفهومة على مكالمة جدّه له، ودعوتهم إلى زيارته قريباً. لم يُلغِ الفساد والسياسة ودّاً بين أبٍ وابنته، ولا سلوكَ ابنٍ عاق كإدغار يُلغي علاقة بأبٍ يُريد تعويض خادمته بما لم يَقُم به هو.

في الفيلمين الإحساس بالسموّ طاغٍ. التصوير الرائع (لوتشا بوغي في "الكاشف"، وإيفو لوبوس أرايخو في "3 أصياف") والاشتغال السينمائي المدهش يدعمان ذلك الشعور، ويعززانه، ويحيلان حاملهما، بعد المُشاهدة، إلى التفكير في العلاقات الإنسانية والعائلية، وصعوبة فك تشابكاتها، والتمعّن في عمق الرؤية السينمائية المتنوّرة، المنقولة تفاصيلها بترفٍ جمالي باهر.
المساهمون