فياغرا عربية

18 نوفمبر 2014

اتسعت ابتسامة الصيدلاني، وكأنه أحسّ باقتناص زبون جديد (Getty)

+ الخط -

حدث الأمر مصادفة، دخلت الصيدلية مثقلاً بصداع عربي رهيب، جراء الأوضاع السائدة والبائدة، على السواء، شاكياً من تأخر الوحدة العربية، ومن غياب شعار تحرير فلسطين من القاموس العربي، ومن وأد الربيع في مصر وليبيا، ومن متاهات الحروب العبثية في سورية والعراق، ومن الفجوة الرقمية بين الشرق والغرب، ومن...

المهم أنني دخلت لشراء حبوب مسكّنة، علّها تخفف عني وطأة هذا الصداع الذي كان موشكاً على تفجير جمجمتي، حين رأيت صديقي الأثير الذي كنت أستمدّ شجاعتي منه دائماً، كلما غامت العروبة في عيني، فضبطته بـ"الجرم المشهود"، وهو يبتاع حبوب فياغرا، وينقد البائع ثمنها. صدمني الموقف وهلة، وهو ما إن رآني، حتى ارتبك وارتعشت أصابعه القابضة على الحبوب الزرقاء.

حاولت أن أجعل الأمر يبدو طبيعياً، فألقيت عليه السلام بحرارة وعانقته، لأبدّد عنه كل إحساس بالحرج والخجل، ورحت أسأله عن كل شيء، ما عدا حياته الجنسية، وكان يجيب باقتضاب، ويحاول التملّص بسرعة، كي يغادر الصيدلية، ويفرّ من الموقف برمته.

كان يمكن لـ"الجريمة" أن تختتم فصلها الأخير عند هذا الحد، لولا أنني تذكرت، بغتةً، أن صديقي غير متزوج، ومن ثم لا حاجة له بتلك الحبوب أصلاً، إلا إذا.. لكن، هذا مستبعد أيضا، فأنا أعرفه جيداً، وأعرف أنه سويّ السلوك، ومن المستحيل أن يقيم علاقة غير شرعية، فضلاً عن أنه ذو مبادئ فكرية صارمة، لا تقبل المساومة. 

وعلى ذكر مبادئه، تذكرت أيضاً، كيف كان هذا الصديق "ينتصب" بغتة، كلما شكّك أحدهم بإمكانية تحرير فلسطين، فنراه يقف ويرفع رأسه كالطاووس، ويقول: "فلسطين على مرمى حجر.. وقريباً سنصلي في القدس، وسترون"، وإذا شكا أحدهم من استحالة تحقيق الوحدة العربية، كان "ينتصب" أيضاً، ليقول: "الوحدة حتمية، أيها الأغبياء، وسيكون في وسعكم قريباً أن تفطروا في المغرب وتتعشوا في بغداد"، وإذا تبرّم أحدنا من غياب الحرية والديمقراطية واستفحال الاستبداد والقمع والكبت في البلاد العربية، "انتصب" هذا الصديق محتدّاً، ورفع صوته قائلاً: "أما هذه فلا.. ألا ترون البشائر بأعينكم، أيها العميان، قريباً سيكون في وسعكم أن تعبثوا بأتخن شنب من شنبات الساسة العرب، وسيكون لكم من الحرية ما تحسدكم عليها الشعوب الاسكندنافية نفسها".

أكثر من ذلك، فاجأنا صديقنا إياه مرة باهتماماته الرياضية، حين تحسّر شاب من "شلتنا" ذات صباح، إبان عروض كأس العالم في البرازيل، على ضياع فرصة تأهل المنتخب الجزائري، إلى الدور ربع النهائي إثر خسارته أمام نظيره الألماني، فوجدنا صديقنا "ينتصب" محتدماً والشرر يتصاعد من عينيه الحمراوين، ليقول: "بلد المليون شهيد لم يخسر.. انتظروه في المونديال المقبل، وسترون ما سيفعله".

كنا نستغرب، أحياناً، مثل هذه التصريحات المنتفخة لصديقنا المتفائل دوماً، ونحسده على يقينياته هذه، خصوصاً حين نلمح "انتصابه" الذي يفوق انتصاب الطاووس، وهو يستعرض ريشه الملون بسخاء. لكن، أكثر ما كان يقلقني، شخصياً، أنا القريب منه كثيراً، حين أشاهده في لحظات انكماش، نادراً ما تظهر عليه، لكنه كان يبدو، حينها، مثل ورقة مجعّدة في الخريف، أو قلم حبر ناشف، استنفد كل سوائله، وأكاد أشعر، حينها، أن هبة ريح طفيفة، ستكون كافية لإسقاطه على أول رصيف ذابل، فتساورني الدهشة من مبلغ هذا التناقض الذي يستعر في جسد صديقي الطاووس.

مرت تلك الذكريات في رأسي المثقل كشريط سريع، حتى إنني كدت أنسى سبب دخولي الصيدلية. لكن، حين لمح الصيدلاني سرحاني، ابتسم برقة في وجهي، ولا أدري حينها كيف تناسيت حبوب الصداع التي دخلت لشرائها، وسألته عوضاً عن ذلك: "ما الذي اشتراه صديقي الذي خرج قبل قليل؟"

اتسعت ابتسامة الصيدلاني، وكأنه أحسّ باقتناص زبون جديد، وأجاب بصوت خفيض: "فياغرا عربية".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.