يسود قلق أوروبي من وعد رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، بتنظيم استفتاء حول العلاقة بين بريطانيا وأوروبا. وفي مبادرة تعكس حجم هذا القلق، تحادث الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند مع كاميرون مطوّلاً حول هذه النقطة بالذات مذكّراً إياه بأن "ثمة قواعد أوروبية والتزامات بريطانية لا يجب إهمالها وتجاوزها"، مباشرة بعد وصول هولاند، ليل أمس الأول، إلى سان مارتان في جزر الأنتيل الفرنسية، حيث بدأ جولة في خمس جزر يختتمها بزيارة رسمية إلى كوبا الإثنين المقبل.
وفي تصريح مغلّف بنبرة انتقادية، قال هولاند في تصريح لوسائل الإعلام في مطار سان مارتان: "إنه من الطبيعي أن يأخذ كاميرون في الاعتبار رغبات الشعب البريطاني، إلا أن هناك قواعد أوروبية يجب الالتزام بها، ومن أهم هذه القواعد التشاور"، مضيفاً: "لقد أبلغت كاميرون بأنني مستعد للتعاون معه، خصوصاً في ما يتعلّق بمكانة بريطانيا في الاتحاد الأوروبي".
وتأتي تصريحات هولاند بعد أن جدد كاميرون، إثر فوز حزبه (المحافظين) بغالبية برلمانية مريحة، التزامه بالوعد الذي كان أطلقه خلال الحملة الانتخابية بخصوص تنظيم استفتاء شعبي لتحديد العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي قبل نهاية عام 2017. وبالنسبة للرئيس الفرنسي، فإن "فوز كاميرون بغالبية برلمانية يتيح استقراراً سياسياً، وهو لم يقل بأنه يريد الخروج من الاتحاد الأوروبي. وكاميرون يريد أن يناقش الأمر، فلنناقش إذاً". ومن هنا دعوة هولاند العاجلة إلى كاميرون فور الإعلان عن فوزه إلى زيارة فرنسا بعد الانتهاء من تشكيل الحكومة البريطانية الجديدة.
تصريحات هولاند تزامنت مع تصريح لرئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، فور الإعلان عن فوز حزب المحافظين، أعرب فيه عن استعداده "للعمل بشكل بنّاء مع بريطانيا" من أجل علاقة متوازنة مع الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من القلق الأوروبي من التوجّه الرافض للاتحاد الأوروبي في بريطانيا، فإن فوز المحافظين بالغالبية البرلمانية ليس هو السيناريو الأسوأ، لكون التخوّف الأكبر أوروبيّاً كان احتمال انتزاع الحزب اليميني المتطرف، حزب "استقلال المملكة المتحدة"، لعدد مهم من المقاعد، ما يتيح له الضغط بقوة على كاميرون. ولكن في النهاية لم يفز هذا الحزب سوى بمقعد واحد في البرلمان البريطاني.
اقرأ أيضاً: كاميرون يفوز ... و يطيح زعماء ثلاثة أحزاب
ويظهر واضحاً أن أكثر ما يخشاه الأوروبيون هو تعاظم شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة في بلدان الاتحاد الأوروبي التي تضع على رأس برامجها الانتخابية الوعد بالخروج من الاتحاد الأوروبي ومن منطقة اليورو وإغلاق الحدود. وفي هذا السياق، كان لافتاً تصريح رئيسة حزب "الجبهة الوطنية" الفرنسية، مارين لوبان، التي اعتبرت أن فوز كاميرون وحزب المحافظين في الانتخابات البريطانية لم يكن ليتحقق من دون الوعد بتنظيم استفتاء شعبي حول الاتحاد الأوروبي.
ويرى المراقبون أن كاميرون بات في وضع يتيح له الضغط على الاتحاد الأوروبي للحصول على تعديلات يطالب بها منذ مدة، خصوصاً في موضوعي مراقبة الهجرة داخل دول الاتحاد وحماية مصالح "سيتي" المالية كشرطين أساسين لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، على الرغم من تأكيد فرنسا وألمانيا في مناسبات عدة سابقاً رفضهما إعادة النظر في الاتفاقيات التي تربط بريطانيا بالاتحاد الأوروبي. وكانت المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، قد رفضت بقوة كل طلبات بريطانيا المتعلقة بتعديل وضعها داخل الاتحاد الأوروبي في زيارتها الأخيرة إلى لندن في يناير/ كانون الثاني الماضي.
وتبقى فرضية التوجّه البريطاني نحو الخروج من الاتحاد الأوروبي قائمة بقوة في سياق الحماس الذي خلّفه الفوز الساحق لحزب المحافظين، إلا أن الفوز الكبير للقوميين الاسكتلنديين في الانتخابات قد يثني كاميرون عن الذهاب في هذا الاتجاه. ذلك أن غالبية الاسكتلنديين يتشبثون بالاتحاد الأوروبي ويمكن أن يلوّحوا بفزاعة الانفصال عن بريطانيا في حال إقامة الاستفتاء والتصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.
كما أن أوساط المال ورجال الأعمال تدافع بقوة عن خيار البقاء في الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أنها تطالب بتعديلات تصبّ أكثر في مصلحة بريطانيا، ذلك أن أوروبا تبقى الشريك التجاري الأول لبريطانيا وتشكّل المبادلات التجارية بين بريطانيا وبلدان الاتحاد الأوروبي حوالي 55 في المائة من مجمل المبادلات التجارية البريطانية مع الخارج وما بين أربعة وخمسة في المائة من الناتج الداخلي الخام.
وتتمتع بريطانيا بوضع خاص في الاتحاد الأوروبي وهي غير ملزمة باتفاق "شانغن" الذي يفتح الحدود بين 22 بلداً عضواً في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى أربع دول غير أعضاء هي سويسرا والنرويج وايسلندا وليشنشتاين. كما أن بريطانيا بقيت خارج نظام العملة الأوروبية الموحّدة، "يورو"، واحتفظت بعملتها الوطنية، الجنيه الاسترليني. وهي أيضاً غير ملزمة بالعديد من الاتفاقيات الأوروبية، خصوصاً تلك المتعلقة بالتعاون الأمني والقضائي.
ومن المنتظر أن تسيطر المفاوضات حول تعديلات محتملة للاتفاق البريطاني مع الاتحاد الأوروبي على الأجندة الأوروبية في الشهور المقبلة، وأن تستحوذ على اهتمام كبار المسؤولين الأوروبيين في المؤسسات الأوروبية الأساسية، أي المفوضية وأيضاً في البرلمان والمجلس الأعلى الأوروبي. وبهذا يكون فوز المحافظين البريطانيين هدية مسمومة للاتحاد الأوروبي الذي لا يزال يتخبط في معالجة التحدي الذي فرضته اليونان على أوروبا بعد فوز حزب "سيريزا" اليساري الراديكالي المناهض للسياسة الأوروبية.
اقرأ أيضاً: بريطانيا وخيارات ما بعد الاقتراع