كانت بيروت منزلاً كبيراً انهارت سقوفه. من الناحية التقنية، واستناداً إلى شهادات المصورين اللبنانيين الذين صوّروا انفجار المرفأ وما بعده، فإن بيروت لم تكن مختبراً، أو مسرحاً عادياً للجريمة. كانت أبواب منازلهم هي التي تخلّعت، وسقوف غرفهم هي التي سقطت. كان حدثاً داخل المنزل، لا خارجه. هرعوا يبحثون عن غرفة الانفجار، قبل اكتشاف الجميع أن الانفجار وقع داخل المنزل.
ربما لذلك، سيشعر الناظر أن المصورين تعاملوا مع ضحايا شخصيين، وأن العناصر الموجودة في صورهم تبدو أشبه بأغراض شخصية، مثل النوافذ المخلعة وموجودات البيوت والقواطع الحديدية الناتئة من الأنقاض. لقد كان الحدث مهنياً في جانبٍ من جوانبه، لكنه كان حدثاً شخصياً كبيراً في الجوانب الأخرى، ما يجعل الصور/الوثائق التي أمامنا أكثر من دلائل بصرية، بل يجعلها أقرب إلى الحاضر الذي سيبقى حاضراً، في وقت لا تعرف الصور علاقة خارج ثنائية الماضي ــ المستقبل.
ليست تلك الصور صوراً للتاريخ، ولا صوراً للمستقبل، إنها صور للحاضر تحديداً، ذلك الحاضر التائه.
حسين بيضون: رأيت مار مخايل
غالباً، لن نجد محطة لإطلاق دعوة جاك دريدا الشهيرة للتعايش مع الماضي ومع الموت أفضل من الصورة. عندما كان الفيلسوف الفرنسي غارقاً في بحثه عن أطياف ماركسيته في أطياف المؤسس كان واعياً لضرورة فهم اللغة التي تتحدث بها أشباح الموتى، وأن يكون الحديث معهم، وليس باسمهم. يمكن أن يتخذ الحديث أشكالاً أخرى، لكنه لن يقترب من العدالة، في المستقبل الذي اعتبره دريدا مستحيلاً.
مهمة الصورة، حسب ما يكاد يتفق الجميع، هو الاحتفاظ باللحظة، أو بالماضي الذي سيذهب، من أجل مستقبل لن يأتي. إنها مهمة شاقة، تشبه مهمة الحياة البشرية: تحويل الماضي إلى المستقبل. هذا ما حدث في بيروت عندما اهتزت، وعندما صارت وظيفة المصوّرين هي القسوة: التحدث مع أشباح الموتى.
حسين بيضون، مصوّر صحيفة وموقع "العربي الجديد"، كان أحد أوائل الواصلين. في السادسة وعشر دقائق مساءً، مسح المصور الفوتوغرافي الدم عن وجهه، ولكنه كان يحاول أن يستيقظ. أخذ معه صوت سيارات الإسعاف، ثم أخذ درج المنزل ونزل. رأى مار مخايل. مدينة من ركام وصراخ. وبعد دقيقة، راح يمشي بلا وجهة محددة. ولكنه كان يمشي، لاعتقاده أنه لا يملك سوى سلاح واحد لمواجهة كل هذا.
سنفترض طبعاً أن الكاميرا هي السلاح، لكنها ليست كذلك. تصويبها إلى الشوارع كان أمراً في غاية القسوة. السلاح الوحيد هو غريزة البقاء، كان بيضون واحداً من الناجين. التقط 1200 صورة، لم يستطع النظر إليها مرة ثانية. اكتفى بما التقطه برأسه الآن: "رأيت ما حلّ بالصحيفة، وما حلّ بالمنزل. رأيت ما حل بالمدينة والمرفأ. الصورة كبيرة، أكبر من التقاطها بكثير".
والآن، ما زل بيضون يحاول أن يمشي، ولكن باتجاه مختلف. لديه ما يفعله: البقاء، إزالة الغبار عن صورة المدينة.
مروان طحطح: بيروت وسادة حمراء
يعرف متابع الفوتوغرافي اللبناني مروان طحطح (صحيفة الأخبار) أنه ليس من أنصار التوثيق، ولديه ميل واضح لتفسير علاقات القوة بين الأشياء: التوقيت، الركام، الدخان، والعابرون في الزمن العابر. سنجد الزمن حاضراً في صور مروان طحطح، وسنجد مساحة كبيرة للاحتمالات، يمكن الإشارة إليها بحضور السماء الذي يحتل مساحة كبيرة في صوره.
في مجموعة كبيرة من صور الانفجار، سيجبر المصوّر على خفض سقف توقعاته قليلاً من تدرجات الأزرق، وينزل الكاميرا قليلاً، ليمرّ على الوجود من دون اعتراض كبير، كمن يؤدي دوراً أخلاقياً في حماية المشهد من طفرة التحليلات. ستراه يصور النافذة من الخارج ولا يدخل، وينقل الأريكة من موقعها بعد الانفجار إلى المشاهدين، من دون تطفل أو اختراع جالسين.
ليس لديه ما يقوله أكثر من الصور. الأرق في وضح النهار، مدينة لا تصدق نفسها، ولا ما حل بها. فتنة المرآة حاضرة في الصور أيضاً، لأنها تعكس ألماً أميناً في شحوبه. ألم يتدرج، مثل رحلة طحطح نفسه بين السادسة والربع في ذلك اليوم، إلى يومنا هذا.
يتذكر: "الأشرفية، التكسير. قبل ساعة من الانفجار كنت في المستشفى. تدمرت بيروت. استغرقني الأمر دقيقتين لأهرع إلى الشارع وأصوّر. تلقيت اتصالاً: (شارع) بدارو مدمر". من (منطقة) الأشرفية، فهِم أن ساحة ساسين مدمرة، وأن كل شيء باتجاه المرفأ مدمّر. قبل أن يفهم أن هذا انفجار واحد، وليس سلسلة انفجارات، طلب منه أحد الجرحى قرب شركة الكهرباء أن يبقى بجانبه. أراد أن يلقي رأسه على الأرض، وللصدفة وجد وسادة من تلك الوسائد التي تستعمل من ركاب الطائرات، وقد حلّقت من غرفة نوم أصحابها إلى الرصيف. الجريح الثاني استلقى على دمية حمراء، على شكل دب، بالعامية اللبنانية تسمى "دبدوب".
في اليوم التالي، فهم المصور كل شيء: المدينة هي المرفأ، والمرفأ هو المدينة: "للأسف، الانفجار يظهر الفوارق الطبقية أيضاً. بعد شهر ونصف، ستهطل الأمطار. هناك من هم بلا سقف، مثل بيروت".
حسن شعبان: ما هو أكثر رهبة
التقط حسن شعبان (ديلي ستار) صورةً لرجل مسن، يتجول على أرضية منثورة بالزجاج، ومحاطاً بمبانٍ شاحبة ممتلئة بالثقوب. يمكننا الافتراض أن الصورة في "وسط بيروت". بعد جولة في صور حسن شعبان، يمكن القول إنه نفسه تجول في الحدث من خارج الوعي.
وفي صورة الرجل المسن الذي كان حاضراً في رأس شعبان، تحضر المدينة بماضيها القريب أيضاً. فالرجل، حسب تعليق شعبان نفسه، لم يغادر ساحات الانتفاضة منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول، ولن يغادرها الآن. هكذا، نصبح أمام السطح البصري الذي يصفه رولان بارت، فيضع الصورة نفسها في مواجهة مجموعة صور راسخة، تفترض وظائف معينة، عندما تطلق باتجاه البصر، وفي لحظة التلقي.
هناك فارق كبير بين العمل داخل غرفة مغلقة، والعمل في فضاء مكشوف، وكذلك بين العمل في زمن واحد، تشظى على السطح إلى زمنين أو أكثر: "لم أصور أشياء كثيرة رهيبة، لأنه كان هناك ما هو أكثر رهبة". بالنسبة له، لا يمكن مقارنة هذا الحدث بشيء آخر، على الأقل منذ 10 سنوات. الصوت، الصدمة، والأضرار، كل شيء مختلف: "صادفنا دماراً في حارة حريك أو في الرويس في ضواحي بيروت الجنوبية، مثلاً، وكانت الأضرار تنحسر هناك، في دائرة قطرها مئة أو مئتا متر حوله، وليس 10 كيلومترات".
كمصور، يقول إنه يستطيع تقدير قوة الصوت من حجم الأضرار، كلما ابتعدت عن موقع الانفجار. الأضرار الموجودة بعد كيلومترين و3 كيلومترات، ليست نفسها بعد 5 و6 كيلومترات، وليست نفسها داخل المرفأ.
في إجابة عن سؤال عن الفارق بين المصور المحلي وزميله الأجنبي، يقول شعبان إن المصور المحلي جاء في اللحظة الأولى، وكان معنياً وشاهداً. أما المصور الأجنبي، مثل أي مصور يذهب إلى مدينة أخرى. جاءت الوكالات لاحقاً، في الوقت بدل الضائع. لديه هو الآخر ما يفعله بعد كل هذا التعب: استكمال الحياة.
بلال جاويش: سرعة الصوت وسرعة الصورة
كان بلال جاويش (وكالة شينخوا الصينية) يحاول أن يفهم ما الذي يحدث، وأين يحدث. في اللحظات الأولى، كان السؤال عن كيفية الحدوث مؤجلا. ذلك أننا في لبنان، وأشياء مثل هذه تحدث، لكن كانت الصور تسبق المصور هذه المرة. التفكيك كان مستحيلاً، ورغم ذلك لم يكن هناك بديل عنه. كان يحاول أن يفهم بنفسه المعنى خلف كل صورة، يسير بنفسه خلف صوره. ثمة شيء ما غير موجود في الصور، ولكنه موجود أيضاً في كل صورة: بصمة، صدمة، أثر، سؤال. تقليدياً، التفكيك هو بحث عن وظائف الاختلاف.
لكن، في حالة الصور التي أمامنا، تلك التي يتصاعد منها الدخان فوق البرجين البيروتيين، لونه الأحمر القاتم الممزوج بالرمادي، كان التفكيك البسيط محاولة بسيطة لتقفي أثر، يعلم المصور أنه ليس موجوداً، ولكن في الوقت نفسه، لا يمكنه التوقف عن البحث/التصوير.
المقارنة مع المرفأ والأحداث الأخرى، يجب أن تأخذ بالاعتبار قوة الانفجار، ومساحة الحدث: "ولا مرة شاهدنا شيئاً مماثلاً، كان هذا مربكاً جداً في البداية"، يقول. ثم يقدّم شرحاً محترفاً: "عندما تصور مسرح الجريمة، بالمعنى الاحترافي، فأنت تصور بين 60 و80% من أضرار المكان. الآن، لم يمكن أن تصور أكثر من 5%. ليس هذا شيئا له مثيل. ما زلنا نصور الأضرار".
لم يسمع الصوت هذه المرة كمصور يجب أن يتبعه بغريزته إلى العمل، بل كساكن شعر بالخطر على مدينته. مثلما شعر الجميع، شعر جاويش أن الانفجار حدث في الشارع الذي بقربه مباشرة. حتى أنه ترك دراجته في البداية، اعتقد أن الأمر حدث بجانبه تماماً. عندما رأى الدخان عاد وأخذ الدراجة.
بعد كل شيء يعرف أن الصورة تنقل الأضرار، لكنها لن تنقل الصوت: "لا أعرف إن جمعنا جميع الصور التي أخذت على ماذا سنحصل. قد نقترب ربما من محاولة تصور الصوت". العلاقة الوحيدة الممكنة بين الصوت الذي دوى وبين الصور نفسها، هي الانفجار وحسب. وهذا شيء لا أحد يرغب في تذكره. فليبق ذلك الصوت في الماضي.