بزغت موسيقى الراب في المغرب إبان التسعينيات، في الوقت الذي كانت فيه موسيقى الراي مُزدهرة وعلى قلوب وألسنة الجيل الجديد، إذْ وجدت موسيقى الراي نفسها أمام فنّ جديد، يُحاول أبناء الجالية المغربيّة المُقيمة في الخارج أنْ يجعلوه لغة لكلامٍ يوميّ داخل عدد من الأحياء الهامشية بمدينة الدار البيضاء، وتزامن ذلك مع موجة الغضب التي خلفتها الهجرة المغربيّة وأدمغتها صوب أوروبا. إذْ كانت موسيقى الراب اللون الفنيّ الوحيد، الذي استطاع من خلاله هؤلاء التعبير عن هواجسهم الفنية والاجتماعية والسياسية، بطريقة بدت مغايرة على صعيد الكلمات والقوالب الموسيقية الغربية للمُستمع المغربي، مع العلم أنّ الراب ظلّ لسنوات يُمثّل "الابن العاق" داخل الفنّ المغربي، بسبب النظرة الدونية التقليدية التي خصها الآباء وبعض المؤسسات الفنية داخل المغرب لهذا الغناء، إذْ اعتبروه فناً لقيطاً من الشوارع، ولا يُمثّل أيّ مدرسة فنية أو تيارٍ موسيقيّ.
عملت المؤسسات الرسميّة على نفي فنّ الراب ووصفه بأنّه مجرّد فنّ غربي، لا يمت للواقع المغربي بصلة، وقطعت جميع الصلات التي يُمكن أنّ تُنسَج بينه وبين الموسيقى المغربيّة الشعبية ذات الطابع الكلاسيكي المُحتكم إلى الإيقاع وتكراريّته.
والحال أنّ التضييق الذي شهده الراب المغربي، منذ الألفية الجديدة وارتفاع منسوبه مع بدايات الربيع العربي، لم يكُن إلا بسبب الخطاب السياسي المُضمر في أغانيه وجرأته على اختراق المنظومة السياسية وتفجيرها فنياً وتعرية مكبوت الأوضاع الاجتماعية داخل المغرب، بالطريقة التي أضحى معها الراب منبوذاً من الأوساط الفنية المغربيّة.
لكن في العشر سنوات الأخيرة، تم الاعتراف به، ليس كَمُكوّنٍ موسيقيّ مغربي، وإنما كأحد الأشكال الفنية الغربية النازحة، التي وجدت ذاتها في تلاقح مع الفنّ المغربي، مع العلم أنّ هذا الاعتراف نفسه، لم يكُن بريئاً لدى المهرجانات والمؤسسات الفنية المغربيّة، بحيث إنّ أغلب الفنانين، مثل "دون بيغ" و"آش كاين" و"مسلم" و"الفناير"، تخلوا عن الحسّ النقدي أو اللغة المُباشرة الحيّة التي تُصيب كل ما يسمعها بالذهول والانبهار من قدرة صاحبها على توليف مفردات سياسية لاذعة داخل قالب موسيقيّ، صوب أغانٍ أخرى ذات بُعدٍ اجتماعي. وهذا التغيير الجذري المُبطن الذي شهدته موسيقى الراب في المغرب كانت له علاقة أساساً بالفنّ المغربي عموماً بمفهومه المُركب، الذي تحوّل من طابعه السياسي والأيديولوجي صوب فضاء المُتعة والترفيه والاستهلاك.
ولعبت شبكات التواصل الاجتماعي والموسيقى الإلكترونية أدواراً كبيرة في ذيوع الراب داخل المغرب، وجعله يتنزل منزلة مرموقة إلى جانب الأنماط الموسيقية الأخرى، حتى غدا نِداً لها، متميّزاً عنها، حاضراً في كل المحافل والمهرجانات المغربية والعربيّة. لكن دون أنْ يجعل من نفسه غناء مستقلاً عن الموسيقى الإلكترونية، والتي تكاد تكون عند بعض الفنانين وكأنها العمود الفقري الذي لا يتأسس عليه شيء، سوى الكلام الملغوم والسخيف وقافية موزونة تحنّ إلى تأليف جادّ، قد يُعبّر عن ملامح جيلٍ جديدٍ مُتمرّد على صعيد جماليّات الكلمة وقوّة الإيقاع والقوالب الموسيقية المُتنوّعة والمُتمازجة، كما هو الشأن عند فرقة "الفناير"، وما استحدتثه هذه الفرقة داخل أغانيها الجديدة من قدرة كبيرة على التجديد، الذي طاول تجربتها وموضوعاتها وغناها الإبداعي، سواء عن طريق الكلمات أو الإيقاع الموسيقي أو فيديو كليباتها المُذهلة، وهي تطرق باب الهوية في المغرب، عبر أغانٍ لقيت استحساناً كبيراً، ليس داخل الجيل الجديد، وإنما داخل الأجيال الأخرى، بحكم أنها استطاعت في السنوات الأخيرة، تكسير جدار الخوف والحشمة داخل مجتمع تقليدي وتقريب أواصر الصداقة بين الأجيال الجديدة مع التي سبقتها، لتغدو موسيقى الراب فناً مُشتركاً، تتقاسمه الأجيال وتتفاعل معه جميع شرائح المجتمع المغربي وبكافة أطيافه وألوانه.