اقرأ أيضاً: شارب السيد الرئيس
الأحزاب المعارضة، التي كانت مشتتة وموزّعة أيام تشافيز، اتّحدت لمرة أولى، في قالبٍ غريب جمع أطيافا من اليسار والوسط واليمين الوسط واليسار الوسط، في صورة أشبه بـ"ثورة مضادة"، على "ثورة تشافيز". كما أنه في المقابل، لم تُواجه وحدة المعارضة تحرّكات عسكرية، ولا حتى مواقف رافضة من الكنيسة. "لم يأبه" الجيش والكنيسة، أقلّه حتى الآن، بنتائج الانتخابات، لكون الخاسرين قد نالوا فرصتهم طيلة السنوات الـ16 الماضية، تاريخ بدء عهد تشافيز، ولكون الرابحين بمختلف أطرافهم وتنوّعهم السياسي، لا يُشكّلون خطراً على تركيبتي العسكر والإكليروس.
ويُمكن وضع هزيمة التشافيزية الساحقة، في سياق أوسع، بدأ منذ فترة، مع ضمور الدور الفنزويلي في أميركا الجنوبية والوسطى، بفعل ضعف القدرة القيادية لمادورو. كما أن بطاقة "الإنذار" التي رفعتها نتائج الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية، في 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بفوز اليميني ماوريسيو ماكري، أفسحت المجال ليمين عائد في أميركا الجنوبية، أو لتغيير ما، أقلّه، في الأنظمة الأميركية اللاتينية الحاكمة. هذا التغيير لم يتوقف في بلاد التانغو فحسب، بل إن البرازيل التي تُحاسب الرئيسة اليسارية، ديلما روسيف، باتت أقرب إلى الأجنحة اليمينية فيها، من اليسار أو الوسط.
ردّ فعل مادورو لم يُطمئن. أصلاً لا يُمكن توقع غير ذلك من رجل استخدم الميثولوجيا الدينية في ذكرى وفاة تشافيز، لإبقاء الشعب على ما يظنّ، تحت السطوة الدينية ـ المدنية التي يُجسّدها هو بشخصه. وفي ذلك الموقف، أسوأ إرهاصات "اليسار الديني"، أو "لاهوت التحرير"، الذي هدف أساساً لنشر مبدأ العدالة الاجتماعية، أو الاشتراكية، وفقاً لروحية الإنجيل، وانتهى، في بعض نواحيه، لتحوّله بيد أمثال مادورو، إلى مجموعة مفاهيم خُرافية تجعل من تشافيز أسطورة يلتقي بيسوع في السماح ليدردشا معاً ويخبره الأول أنه "حان وقت أميركا اللاتينية" ليستجيب الثاني وليوصل أرجنتيني إلى البابوية للمرة الأولى في التاريخ بهوية البابا فرنسيس.
رفض مادورو الاستسلام للأمر الواقع. في البداية، أعلن قائلاً "أمام هذا الوضع، ومتحلّين بمعنويات عالية وبقيمنا الأخلاقية السامية، نعترف بهذه النتائج المناقضة لما تمنيناه، ونقول لفنزويلا إن دستورنا وديمقراطيتنا انتصرا. نحن نتقبّل ذلك. نحن نتقبّله". بعدها، باشر حراكه: أقال الحكومة. وجمع قلّة من أنصاره أمام القصر الرئاسي في كاراكاس. دعا إلى "نقاش ثوروي ونقد ذاتي". وأصرّ "أنا معني بالقيام بثورة جذرية، ولن أُسلّم الثورة إلى الفريق الخصم". قبل أن يُطلق "قنبلته" التي يوحي فيها بأنه لن يتقبّل تداعيات نتائج الانتخابات، كإقالته أو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، بالقول: "إما أن نخرج من هذا المستنقع عن طريق الثورة، أو أن فنزويلا ستدخل في نزاع كبير سيؤثر على كل منطقة أميركا اللاتينية والوسطى". مادورو أو الفوضى، هو شعار المرحلة الفنزويلية، المستوحى من بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وضع مادورو ليس جيداً إطلاقاً، لكنه يُمكن أن يستغلّ عامل الوقت. المعارضة بكامل تلاوينها ستضغط باتجاه إقالته، وكلما أسرعت في ذلك، حافظت على وحدتها. وكل يوم يمرّ على "صمود" مادورو في القصر الرئاسي، يُكبّد المعارضة أثماناً باهظة، لناحية تعرّض جبهتها للتصدّع. كما يحظى الرجل بدعمٍ إقليمي، من كوبا وبعض دول أميركا الجنوبية، كالإكوادور، عكس المعارضة، التي لم تحظَ بعد بـ"الراعي الإقليمي" أو "الأممي" لها، الذي يُمكن رفدها بالمساندة الإعلامية والسياسية.
كما أن كلام مادورو عن "النزاع" يحمل في طيّاته نوايا سلبية، لناحية استخدام الأذرع الموالية له في الجيش، والتي نَصَبَها تشافيز، غداة الانقلاب الفاشل ضده بين 11 و13 أبريل/نيسان 2002. استخدام الجيش في فنزويلا، يعني تحوّل البلاد إلى حربٍ أهلية، تحت شعار "الحفاظ على الثورة التشافيزية البوليفارية"، ما ينعكس سلباً على دول الجوار، من كولومبيا إلى الجزر الكاريبية. يعني ذلك أيضاً، ضرب خطوط النفط البحرية والبرية. ومن الطبيعي ألّا تتحمّل الولايات المتحدة أي حربٍ أهلية في حيّزها الجيوبوليتيكي، قد تؤثر على العلاقات الجديدة مع كوبا، من دون أن تضربها.
الأهم وسط كل ذلك، هو مواصلة جبهات المعارضة في أميركا الجنوبية انتفاضتها الديمقراطية ضدّ الأنظمة الحاكمة، ما يؤكد أن وجه القارة الأميركية الجنوبية يتغيّر. ومن شأن هذا التغيير تشريع الأبواب أمام تبدّلات اقتصادية عامّة، قد تمسّ بجوهر سوق "ميركوسور" (سوق أميركا الجنوبية)، ويُعرّضه لاهتزازٍ شبيه باهتزاز السوق الأوروبية المشتركة، بفعل صعود اليمين الأوروبي إلى السلطة.
صحيح أن اليسار الأميركي الجنوبي يمرّ بأسوأ أيامه حالياً، إلا أن الذهنية المجتمعية للشعوب في تلك القارة لا يُمكن أن تقبل أي خيارٍ آخر، ما لم يكن مستنداً إلى الأسس اليسارية، لأسباب زراعية واجتماعية. وربما هو ما أدى إلى تقبّل الفنزويليون دعم المعارضة المتعددة، التي تضمّ أطرافا يسارية، وهو دعم لن يستمرّ إذا صمد مادورو.
اقرأ أيضاً: ماوريسيو ماكري رئيساً للأرجنتين... هل يتمدّد دومينو اليمين اللاتيني؟
لم تكن تلك التبدّلات كلها لتحصل أيام تشافيز. الرجل كان مختلفاً بعض الشيء، وقادراً على تجيير الأوضاع لمصلحته. صورته "الأممية" أقوى من صورة أي رئيس. كان يُمكن أن يُسأل أي شخص في العالم: هل تعرف هوغو تشافيز؟ سيجيبك بنعم، لكن قلّة يعلمون أنه كان رئيساً لدولة تُدعى فنزويلا. لم يسقط اليمين أو اليسار في فنزويلا، بل التشافيزية هي التي سقطت.