فلسطين حجرٌ في "عين العرب"
لم يسبق لموقعةٍ قتالية حديثة، ربما، أن اتسع اسمها، لمجاز لغوي، ذي رمزية سياسية فاضحة، مثلما هي حال معركة "عين العرب" التي تدور رحاها، منذ أسابيع، في أقصى شمال سورية، بين تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" ووحدات حماية الشعب الكردي، المدعومة بتحالف دولي غربي عربي عريض.
وما كان الاسم وحده كافياً، ليغري عشرات الكتاب، وبينهم كاتب هذه السطور، بغزو عالم الاستعارة اللغوية، لولا اقتران معركة "عين العرب" مع عجز العالم، والعرب أساساً، عن مشاهدة ما يحدث، في ساحة القتال، وكذا قصور نظرهم عن رؤية ما وراءها، من تعقيدات، يختلط فيها المذهبي بالقومي، والمحلي بالإقليمي بالدولي.
ثمة حال من العمى تسود المواقف، بدءاً من "عين العرب" نفسها، حيث دخان القصف الجوي والمدفعي يعزز حجب المشهد، المحجوب أصلاً، عن عيون الصحافيين المرابطين على الحدود، مروراً بطلاسم تحالفاتٍ، تبدو أشبه بالأحجية، وحتى معنى استيقاظ "الضمير الإنساني الدولي" على صرخات الأكراد اللاجئين من مدينتهم (يسمونها كوباني)، بعدما تناوم طويلاً، أمام ذبح وتشريد ملايين السوريين، على أيدي نظام بشار الأسد.
وإذ أكتب ما أكتب، الآن، في خامس أيام مهمتي، مراسلاً تلفزيونياً، يرقب الحرب، من التلال الحدودية التركية المطلة على "عين العرب"، فلأني، وكل الصحافيين العاملين في المكان، لم نستطع بعد رسم صورة دقيقة لخريطة القتال بين الجانبين، ولا فهم دوافع دول عربية، للقبول بدور الكومبارس، وفق لغة السينما، في حرب أميركية غربية، تنظر إلى سورية، بعين واحدة، وتغمض عينها الثانية، عن كثير مما يعتمل في مرمى رؤيتها.
مفهوم، طبعاً، احتشاد الجميع لمواجهة ما يسمى "خطر الجهاديين الإسلاميين المتطرفين". ومفهوم أيضاً سعي "داعش" إلى احتلال "عين العرب"، باعتبارها البقعة الوحيدة التي تفصل بين مناطق سيطرته، الممتدة من تل أبيض شرقاً إلى ريف حلب الشمالي غرباً. ومفهوم دفاع المقاتلين الأكراد عن مدينتهم، الواقعة في قلب الحلم التاريخي بدولة كردستان. ومفهوم، في الوقت نفسه، توجس الأتراك من خطر هذين المشروعين على حدود بلادهم الجنوبية، واقتراحهم، شرطاً للمشاركة في التحالف الدولي، إقامة منطقة عازلة في الأراضي السورية، تمهد للتخلص من الأسد، ومن التطرف الذي نتج عن إرهاب دولته.
لماذا لا يوافق المجتمع الدولي على اقتراح تركيا؟. الأسد يقتل السوريين بالجملة، فلماذا يتجنب الغرب استهدافه، ولماذا يكتفي بمعركةٍ مع "داعش" في مدينة، يُقرُّ، بأنها غير استراتيجية؟!. سألت زميلة صحفاية ألمانية، رداً على تساؤلها؛ أهذا هو الإسلام (في إشارة إلى ما يفعل "داعش" بالأكراد)؟ فما كان منها إلا أن أعادت لي سؤالي؛ لماذا برأيك؟ قلت لا أعرف، فقالت: وأنا مثلك، لا أعرف.
لكني سرعان ما كدت أصيح، بعد ساعة من الزمن، على طريقة أرخميدس حين اكتشف قانون الطفو في الماء، وخرج إلى الشارع صارخاً؛ "أوريكا أوريكا" أي وجدتها وجدتها.
كنت أجول على تلة تطل على "عين العرب" فإذا بحجر، له شكل خارطة فلسطين، ملقى بين حجارة وصخور كثيرة. انتزعتُه من الأرض. حملته. تحسست تضاريسه، وأدهشني تشابهها مع تضاريس فلسطين، ثم لم أستطع منع نفسي من التداعي مع هذه المصادفة، لأتذكر أن جذر كل الأزمات في الشرق الأوسط، يعود إلى الظلم الذي لحق بتلك البلاد، وأهلها، فالديكتاتوريات العربية تذرعت بمواجهة إسرائيل، لتعطل الحياة والتنمية والحقوق، ستة عقود، ثم باتت مصلحة هذه الدولة المصطنعة وأمنها من أهم أولويات الغرب، وعلى ضوئهما، يتقرر إشعال الحروب أو إخمادها، وبقاء الزعماء الفاسدين أو خلعهم.
سيتسع المجاز، هنا، لاستعارة لغوية أخيرة؛ فلسطين التي ظهرت لي مصادفةً على شكل حجر في "عين العرب" كانت، منذ البدء، ومازالت، حجراً في عين العرب، أهملوه، ففقدوا الرؤية، وتاهوا.