28 يناير 2024
فلسطين بالحبر السري
بين منصة القضاء المصري، الذي حاكم فلسطين بشهدائها وأسراها، ومنصة الخطب العربية العصماء المخصصة لتمجيد فلسطين، في الخمسينيات والستينيات، التي اعتلتها الأنظمة العربية مطية، لتبرر قمعها وكبتها لشعوبها أمس، يتحول الحبر من العادي إلى السري، للكتابة عن فلسطين.
والحال أنه لم يعد بعيداً اليوم، الذي لن نجرؤ فيه على كتابة اسم فلسطين بغير الحبر السري، لنعبر فيها عن حب بات ممنوعاً، ووطن أضحى مخلوعاً من الحسابات العربية برمتها.
أكتب بأواخر الحبر العادي الآن، لا لأستنكر أحكام القضاء المصري على رئيس منتخب، وشهداء فلسطينيين لم يعد يعنيهم من أمر دنيانا غير ما قضوا من أجله، وأسرى لم يعودوا يطلبون الحرية، إلا في زنازين المحتل، لكنني أكتب محاولاً استباق تلك اللحظة الممنوعة على قلمي، حين يصبح الحديث عن فلسطين وشهدائها وأسراها وشعبها خيانة كبرى.
أكتب لأني أعرف أنه حين يستبدل قضاء أكبر دولة عربية زيه الأسود الوقور بثياب المهرجين، ليدين التخابر مع "حماس"، فهو إنما يقصد إدانة المقاومة الفلسطينية كلها، بفصائلها وشعبها وحملة حجارتها، وحينها، يحق لي الجزع على مستقبل فلسطين في أتون هذه الكوميديا السوداء.
في سياقٍ كهذا، يخطر في ذهني، دوماً، ما يسمى "رجل المهمات القذرة"، وهو الرجل ذو الضمير الميت، الذي يوكل إليه سادة، يدعون الفضيلة، مهمات خارج إطار القانون والأعراف والفضائل، في مقابل المال طبعاً، لتحقيق مآربهم في تصفية خصم أو منافس، غير أني لم أكن أصدق أن تتحول دولٌ، بأكملها، إلى "دول مهمات قذرة"، لا هدف لها غير تصفية إخوة السلاح والخبز والملح والقضية، لصالح سادة آخرين طبعاً يحقنون نظامها بمال كـ"الرز"، في سبيل إخماد جذوة المقاومة في العروق الفلسطينية والعربية على السواء.
أي هوان يدفع قاضياً عربياً إلى اعتلاء منصة الحكم، وإصدار حكم بإدانة فلسطين، ومن ثم الطرق على الطاولة، معلناً عن رفع الجلسة، وكأنه يعلن عن وفاة القضية التي دفع الفلسطينيون والعرب أجيالاً من أعز رجالهم ونسائهم ومبدعيهم فداءً لها؟
ربَّ قائل إن فلسطين ليست "حماس"، لكنني على ثقة من أن من حاكموا "حماس" إنما كانوا يستهدفون انتصار غزة على جلادها في حربين ضروسين، وهما الحربان اللتان أعادتا الثقة بالمقاتل الفلسطيني، الذي كان قد تحول، في واقع الأمر، إلى شرطي سير، أو سجان أو قامع مظاهرات في رام الله والضفة الغربية، بعد أن استبدل زي المقاتل بزي التاجر، أو الموظف الذي ينتظر الإحالة على المعاش في عز عطائه.
للإنصاف، أيضاً، بدأت فلسطين تدخل حقل الممنوعات، حتى في وجدان الشعوب العربية، التي بات بعضها يشعر أن هذه القضية لم تعد عربية، لا سيما بعد اتفاقيات أوسلو، وتفريط قيادات المقاومة بثوابت النضال.
عموماً، وقبل أن أدخل عصر الحبر السري، أقول إن فلسطين التي تحاكم الآن على منصات القضاء العربية، وليس المصرية فحسب، (أعني هذه العبارة تماماً؛ لأن هناك منصات رديفة ومساندة تنتظر أوان إصدار أحكامها المماثلة) هي فلسطين نفسها التي تغنى بها الأسلاف من الأنظمة العربية، التي كان مبرر وجودها كله زعمها إعداد العدة لتحرير فلسطين، فاتخذت من فلسطين منصة لتصدير خطبها العصماء، ولإعلان قمعها وكبتها وطوارئها، تحت عناوين "فلسطين أولاً"، و"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فيما تمارس الأنظمة الحفيدة الدور نفسه. لكن، على نحو معاكس هذه المرة، لتجعل من طمس فلسطين وقضيتها وشهدائها وأسراها وصمود شعبها مبرراً لوجودها وقمعها، ومحاكمة ربيعها.
أوشك حبري العادي أن ينفد، وأجدني مضطراً لاستبداله بحبر سري، لا للكتابة عن فلسطين الممنوعة وطناً وتحريراً ومقاومةً، بل لتوجيه هذه الشتيمة التي لن يقرأها أحد كونها مكتوبة بالحبر السري: "سحقاً للأنظمة العربية.. قديمها وحديثها".
أكتب بأواخر الحبر العادي الآن، لا لأستنكر أحكام القضاء المصري على رئيس منتخب، وشهداء فلسطينيين لم يعد يعنيهم من أمر دنيانا غير ما قضوا من أجله، وأسرى لم يعودوا يطلبون الحرية، إلا في زنازين المحتل، لكنني أكتب محاولاً استباق تلك اللحظة الممنوعة على قلمي، حين يصبح الحديث عن فلسطين وشهدائها وأسراها وشعبها خيانة كبرى.
أكتب لأني أعرف أنه حين يستبدل قضاء أكبر دولة عربية زيه الأسود الوقور بثياب المهرجين، ليدين التخابر مع "حماس"، فهو إنما يقصد إدانة المقاومة الفلسطينية كلها، بفصائلها وشعبها وحملة حجارتها، وحينها، يحق لي الجزع على مستقبل فلسطين في أتون هذه الكوميديا السوداء.
في سياقٍ كهذا، يخطر في ذهني، دوماً، ما يسمى "رجل المهمات القذرة"، وهو الرجل ذو الضمير الميت، الذي يوكل إليه سادة، يدعون الفضيلة، مهمات خارج إطار القانون والأعراف والفضائل، في مقابل المال طبعاً، لتحقيق مآربهم في تصفية خصم أو منافس، غير أني لم أكن أصدق أن تتحول دولٌ، بأكملها، إلى "دول مهمات قذرة"، لا هدف لها غير تصفية إخوة السلاح والخبز والملح والقضية، لصالح سادة آخرين طبعاً يحقنون نظامها بمال كـ"الرز"، في سبيل إخماد جذوة المقاومة في العروق الفلسطينية والعربية على السواء.
أي هوان يدفع قاضياً عربياً إلى اعتلاء منصة الحكم، وإصدار حكم بإدانة فلسطين، ومن ثم الطرق على الطاولة، معلناً عن رفع الجلسة، وكأنه يعلن عن وفاة القضية التي دفع الفلسطينيون والعرب أجيالاً من أعز رجالهم ونسائهم ومبدعيهم فداءً لها؟
ربَّ قائل إن فلسطين ليست "حماس"، لكنني على ثقة من أن من حاكموا "حماس" إنما كانوا يستهدفون انتصار غزة على جلادها في حربين ضروسين، وهما الحربان اللتان أعادتا الثقة بالمقاتل الفلسطيني، الذي كان قد تحول، في واقع الأمر، إلى شرطي سير، أو سجان أو قامع مظاهرات في رام الله والضفة الغربية، بعد أن استبدل زي المقاتل بزي التاجر، أو الموظف الذي ينتظر الإحالة على المعاش في عز عطائه.
للإنصاف، أيضاً، بدأت فلسطين تدخل حقل الممنوعات، حتى في وجدان الشعوب العربية، التي بات بعضها يشعر أن هذه القضية لم تعد عربية، لا سيما بعد اتفاقيات أوسلو، وتفريط قيادات المقاومة بثوابت النضال.
عموماً، وقبل أن أدخل عصر الحبر السري، أقول إن فلسطين التي تحاكم الآن على منصات القضاء العربية، وليس المصرية فحسب، (أعني هذه العبارة تماماً؛ لأن هناك منصات رديفة ومساندة تنتظر أوان إصدار أحكامها المماثلة) هي فلسطين نفسها التي تغنى بها الأسلاف من الأنظمة العربية، التي كان مبرر وجودها كله زعمها إعداد العدة لتحرير فلسطين، فاتخذت من فلسطين منصة لتصدير خطبها العصماء، ولإعلان قمعها وكبتها وطوارئها، تحت عناوين "فلسطين أولاً"، و"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فيما تمارس الأنظمة الحفيدة الدور نفسه. لكن، على نحو معاكس هذه المرة، لتجعل من طمس فلسطين وقضيتها وشهدائها وأسراها وصمود شعبها مبرراً لوجودها وقمعها، ومحاكمة ربيعها.
أوشك حبري العادي أن ينفد، وأجدني مضطراً لاستبداله بحبر سري، لا للكتابة عن فلسطين الممنوعة وطناً وتحريراً ومقاومةً، بل لتوجيه هذه الشتيمة التي لن يقرأها أحد كونها مكتوبة بالحبر السري: "سحقاً للأنظمة العربية.. قديمها وحديثها".