23 اغسطس 2020
فلسطينيون أسرى المكتبة الإسرائيلية
صارت المكتبة الوطنية الإسرائيلية في القدس أخيرا وجهة لأكاديميين وباحثين فلسطينيين عديدين في الداخل، للمشاركة في ندوات ومؤتمرات، مرة عن الأديب إميل حبيبي وأخرى عن دور الصحافة في التأريخ وغيرها. ويبدو للوهلة الأولى أن الأمر طبيعي، وأن المكتبة مشكورة على اهتمامها بالأدب والصحافة الفلسطينية، إذ خصصت المكتبة أخيرا موقعاً أرشيفياً بالعربية، فيه نسخ مصورة من أرشيف صحف فلسطينية صدرت قبل النكبة، والتي انتهى بها المطاف إلى الأسر، إلى المكتبة الإسرائيلية الوطنية.
لكن، خلف هذا الاهتمام الإسرائيلي بالأدب والثقافة والصحافة الفلسطينية أمر بالغ الخطورة، أو يجوز اختزاله بـ"خوف الغزاة من الذكريات". فهذه المكتبة التي تأسست أواخر القرن التاسع عشر في القدس، تحتجز اليوم ما لا يقل عن ثمانية آلاف كتاب فلسطيني، بحسب اعترافها في رد رسمي على استجواب في الكنيست (البرلمان)، جزء كبير منها جرى مصادرته والسطو عليه بعد النكبة عام 1948، ومنها المكتبة الثرية للمربي والأديب الفلسطيني المعروف خليل السكاكيني، الذي غادر منزله في حي القمطون المقدسي خلال النكبة، أو أعمال رائد التصوير الفلسطيني خليل رصاص، الذي وثق يوميات المقاومة الفلسطينية في حرب 48، كما أتلفت المكتبة وجهات أخرى عشرات آلاف الكتب الفلسطينية التي سطت عليها القوات الصهيونية في مختلف المدن الفلسطينية. وبحوزة هذه المكتبة الصهيونية أرشيف ضخم، كما ذكرت، للصحف الفلسطينية التاريخية، مثل "فلسطين" و"الدفاع".
وللمفارقة، وفي مقابل السطو على المكتبات الفلسطينية، أطلقت المكتبة نفسها والجامعة العبرية
التي كانت الحاضنة لها بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط الحكم النازي في ألمانيا حملة "كنوز الشتات" لجمع الكتب والوثائق اليهودية التي سطا عليها النازيون من منازل المواطنين اليهود، وتمكّنت من جمع مئات آلاف الكتب والوثائق المنهوبة، ونقلها إلى القدس الغربية قبل قيام إسرائيل، باعتبار ذلك جزءا من مشروع تأسيس ثقافة يهودية صهيونية في فلسطين. لكن في السنوات الأخيرة واجهت المكتبة قضيتين في المحاكم، الأولى للوريثة الشرعية لكتابات الأديب التشيكي فرانس كافكا، والتي طالبت باستعادة مؤلفاته الأصلية من المكتبة، لأنها ليست إسرائيلية ولا صهيونية، وبالفعل حصلت عليها، كونها الوريثة القانونية بعد مداولات في المحاكم استمرت ثماني سنوات، خصوصاً أن كافكا كتب بالألمانية ولم يزر فلسطين بتاتاً. والقضية الثانية هي التي تقدمت بها الجالية اليهودية في فيينا، مطالبةً باستعادة آلاف المستندات التي تخصها، وجرى إيداعها مؤقتا في القدس بعد الحرب العالمية الثانية.
وتؤكد أطروحة دكتوراة لباحث إسرائيلي، يدعى غيش عميت، أن المكتبة الوطنية الإسرائيلية احتجزت أيضا كتبا دينية لمهاجرين يهود من اليمن، وصلوا إلى فلسطين في خمسينيات القرن الماضي، ورفضت الإفراج عنها، على الرغم من أن أصحابها لم يكونوا "غائبين" مثلما تتذرّع عادةً في الرد على عدم إعادتها إلى الكتب الفلسطينية. ويشدد عميت على أن المكتبة تصرّفت بشكل استعماري واستشراقي مع المؤلفات المصادرة، إلى درجة أن رجالها كانوا يتصرفون كأنهم وحدة عسكرية مثل القوات الصهيونية لنهب المكتبات الفلسطينية.
والمؤلم حقيقةً هو ما قاله الفلسطيني محمد البطراوي في فيلم وثائقي عن الموضوع قبل وفاته عام 2011، وكان شاهدا على نكبة قرية أسدود، إن القوات الصهيونية الغازية جمعت الشباب الفلسطينيين خلال النكبة، وقامت بترقيمهم ونقلهم بشاحنات في القرى والمدن الفلسطينية لإفراغ محتويات المنازل العربية التي أخليت خلال الاعتداءات الصهيونية، وتجميع ما فيها من كتب وأثاث ومحتويات مختلفة. أي أنّ القوات الصهيونية ارتكبت جريمة مضاعفةً لا تتوقف عند حد السطو على حضارة وثقافة شعب وسرقة أرضه، بل إجبار أصحاب الأرض بأن يقوموا بأنفسهم بأعمال السطو. وعلى الرغم من النية المسبقة والمخطط لها للسطو، تتذرّع المكتبة الصهيونية بأنها حافظت على الكتب المنهوبة وصانتها، وهذا ليس صحيحا ألبتة، لأنها أتلفت الآلاف منها، وتمنع أصحاب الكتب، أبناء الشعب الفلسطيني والورثة القانونيين لأصحاب الكتب، من الوصول إليها واستردادها.
قضية السطو على المكتبات الفلسطينية جزء من محاولة طمس هوية البلاد العربية الفلسطينية،
تماماً مثل السطو على الأرض وتشريد أصحابها أو إعدامهم بشكل جماعي. والمشاركة العربية بفعاليات هذه المكتبة هي عملياً تعاون عن قصد أو غير قصد مع السارق. فالمكتبة تحاول أن تروّج نفسها بأنها منفتحة على الرواية الفلسطينية، لكنها في الواقع تحرفها، إذ تقيم مواقع إلكترونية موجهة للعرب والفلسطينيين تعرض فيها بعض المؤلفات المنهوبة، مثل الصحف، وتحاول أن تصبح مرجعاً تاريخياً لليوميات الفلسطينية قبل النكبة، ومنافسة الضحية على سرد روايتها. ومن أجل ذلك، هي بحاجة إلى أياد عاملة عربية، وبحاجة إلى شرعية أخلاقية و"علمية" من أكاديميين عرب، لتبدو أمام الباحث من خارج فلسطين بأنها شرعية، وبشهادة أكاديميين عرب. وليس مصادفة أنها اهتمت بذكر أماكن عمل بعض المشاركين في مؤتمر قادم لها، وهي صحف عربية معروفة مثل "الاتحاد" الحيفاوية و"القدس العربي"، وذلك لإسباغ الشرعية على نشاطها. أي مساهمة عربية في مشاريع المكتبة الصهيونية هي طعنة بالذاكرة والوعي الفلسطينيين، ولا تزيد المساهمين فيها شرفاً أو علماً، بل تحولهم إلى شهود زور على سرقة البلاد مادياً وروحياً.
المطلوب حالاً حملة فلسطينية، رسمية وشعبية، لاسترداد هذه الكتب. فإذا كان استرداد فلسطين مادياً، أي الأرض، غير متاح حالياً، فإن استرداد فلسطين روحياً، أي الكتب والممتلكات الروحية، في متناول اليد، إذا توفرت رغبة ومثابرة سياسية، ويتوقع من وزارة الثقافة الفلسطينية أن يكون لها دور بارز في هذا النشاط لاسترداد جزء من روح البلاد. حصل ذلك في العام 1983،عندما جرى شمل أرشيف مركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت الذي نهبه الجيش الإسرائيلي في غزوه بيروت صيف 1982، في صفقة لتبادل الأسرى. وبالفعل، تسلمت منظمة التحرير حينها معظم مواد الأرشيف المنهوبة، لكن مصيرها كان في أحد معسكرات منظمة التحرير في صحراء الجزائر. لنرفض المشاركة في طقوس شهادة الزور في "مؤتمرات" المكتبة الصهيونية، ولنعد الأمانة لأصحابها، أصحاب البلاد.
لكن، خلف هذا الاهتمام الإسرائيلي بالأدب والثقافة والصحافة الفلسطينية أمر بالغ الخطورة، أو يجوز اختزاله بـ"خوف الغزاة من الذكريات". فهذه المكتبة التي تأسست أواخر القرن التاسع عشر في القدس، تحتجز اليوم ما لا يقل عن ثمانية آلاف كتاب فلسطيني، بحسب اعترافها في رد رسمي على استجواب في الكنيست (البرلمان)، جزء كبير منها جرى مصادرته والسطو عليه بعد النكبة عام 1948، ومنها المكتبة الثرية للمربي والأديب الفلسطيني المعروف خليل السكاكيني، الذي غادر منزله في حي القمطون المقدسي خلال النكبة، أو أعمال رائد التصوير الفلسطيني خليل رصاص، الذي وثق يوميات المقاومة الفلسطينية في حرب 48، كما أتلفت المكتبة وجهات أخرى عشرات آلاف الكتب الفلسطينية التي سطت عليها القوات الصهيونية في مختلف المدن الفلسطينية. وبحوزة هذه المكتبة الصهيونية أرشيف ضخم، كما ذكرت، للصحف الفلسطينية التاريخية، مثل "فلسطين" و"الدفاع".
وللمفارقة، وفي مقابل السطو على المكتبات الفلسطينية، أطلقت المكتبة نفسها والجامعة العبرية
وتؤكد أطروحة دكتوراة لباحث إسرائيلي، يدعى غيش عميت، أن المكتبة الوطنية الإسرائيلية احتجزت أيضا كتبا دينية لمهاجرين يهود من اليمن، وصلوا إلى فلسطين في خمسينيات القرن الماضي، ورفضت الإفراج عنها، على الرغم من أن أصحابها لم يكونوا "غائبين" مثلما تتذرّع عادةً في الرد على عدم إعادتها إلى الكتب الفلسطينية. ويشدد عميت على أن المكتبة تصرّفت بشكل استعماري واستشراقي مع المؤلفات المصادرة، إلى درجة أن رجالها كانوا يتصرفون كأنهم وحدة عسكرية مثل القوات الصهيونية لنهب المكتبات الفلسطينية.
والمؤلم حقيقةً هو ما قاله الفلسطيني محمد البطراوي في فيلم وثائقي عن الموضوع قبل وفاته عام 2011، وكان شاهدا على نكبة قرية أسدود، إن القوات الصهيونية الغازية جمعت الشباب الفلسطينيين خلال النكبة، وقامت بترقيمهم ونقلهم بشاحنات في القرى والمدن الفلسطينية لإفراغ محتويات المنازل العربية التي أخليت خلال الاعتداءات الصهيونية، وتجميع ما فيها من كتب وأثاث ومحتويات مختلفة. أي أنّ القوات الصهيونية ارتكبت جريمة مضاعفةً لا تتوقف عند حد السطو على حضارة وثقافة شعب وسرقة أرضه، بل إجبار أصحاب الأرض بأن يقوموا بأنفسهم بأعمال السطو. وعلى الرغم من النية المسبقة والمخطط لها للسطو، تتذرّع المكتبة الصهيونية بأنها حافظت على الكتب المنهوبة وصانتها، وهذا ليس صحيحا ألبتة، لأنها أتلفت الآلاف منها، وتمنع أصحاب الكتب، أبناء الشعب الفلسطيني والورثة القانونيين لأصحاب الكتب، من الوصول إليها واستردادها.
قضية السطو على المكتبات الفلسطينية جزء من محاولة طمس هوية البلاد العربية الفلسطينية،
المطلوب حالاً حملة فلسطينية، رسمية وشعبية، لاسترداد هذه الكتب. فإذا كان استرداد فلسطين مادياً، أي الأرض، غير متاح حالياً، فإن استرداد فلسطين روحياً، أي الكتب والممتلكات الروحية، في متناول اليد، إذا توفرت رغبة ومثابرة سياسية، ويتوقع من وزارة الثقافة الفلسطينية أن يكون لها دور بارز في هذا النشاط لاسترداد جزء من روح البلاد. حصل ذلك في العام 1983،عندما جرى شمل أرشيف مركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت الذي نهبه الجيش الإسرائيلي في غزوه بيروت صيف 1982، في صفقة لتبادل الأسرى. وبالفعل، تسلمت منظمة التحرير حينها معظم مواد الأرشيف المنهوبة، لكن مصيرها كان في أحد معسكرات منظمة التحرير في صحراء الجزائر. لنرفض المشاركة في طقوس شهادة الزور في "مؤتمرات" المكتبة الصهيونية، ولنعد الأمانة لأصحابها، أصحاب البلاد.