فك "النداء" ارتباطه بـ"النهضة"… هل ينتهي نزيف الحزب الحاكم؟

09 يناير 2018
هذه العودة محفوفة بمخاطر كثيرة لمرزوق (ياسين غيدي/الأناضول)
+ الخط -
تشهد الساحة السياسية التونسية تطورات مهمة ومتلاحقة قد تغيّر المشهد بشكل كبير، بعد إعلان حزب "نداء تونس" فكّ الارتباط مع "حركة النهضة". ويتوقّع مراقبون أن يكون "نداء تونس" عنوان المرحلة السياسية الجديدة بسبب إعادة خلط الأوراق مرة أخرى. وأكّدت مصادر حزبية تحدثت لـ"العربي الجديد" أن قرار الحزب فكّ الارتباط مع "النهضة" أو التحوّل من مرحلة التوافق إلى مرحلة التنافس معها، لا علاقة له مباشرة بنتائج انتخابات ألمانيا (التي فاز فيها مرشح حزب الرئيس منصف المرزوقي على مرشحي النداء والنهضة) كما يظنّ كثيرون، وإنّما هو مشروع معدّ سلفاً لإعادة التموضع من جديد في الساحة السياسية، واسترجاع شعاراته التي تأسّس عليها وحاولت أحزاب أخرى "سرقتها منه"، إضافة إلى تقوية الحزب واستعادة الشخصيات التي كانت معه وغادرته إلى أحزاب أخرى.

وتوقّعت هذه المصادر حدوث موجة هجرة عكسية داخل الحزب، بعد موجة الانشقاقات التي حصلت بعد انتخابات 2014، إثر تحالفه مع "النهضة" وأحزاب أخرى، وإعادة تجميع الكانتونات الحزبية التي تفرّعت منه، والتي أعلنت أنها غادرته لهذا السبب أولاً، وبسبب خلافاتها مع رئيس الحزب، حافظ قائد السبسي، واتهامه بمحاولة الهيمنة على "نداء تونس".

وفي هذا السياق، قالت مصادر مقربة من "النداء" لـ"العربي الجديد"، إن الحزب "قد يشهد تغييرات مهمة في هيكلة وأسلوب القيادة في المرحلة المقبلة، مما يتيح الحدّ من سلطات حافظ من ناحية، ويعيد تشكيل الإدارة الجماعية ويمنح أدواراً واضحة للعائدين من الشخصيات الاعتبارية داخل الحزب، من ناحية أخرى".

وكشفت المصادر عن وجود نقاشات مهمة مع أكثر من حزب متفرّع من "النداء" وشخصيات ونواب كانوا غادروا الحزب (بني وطني، تونس أولاً، الكتلة الوطنية، المستقبل)، فيما تدور النقاشات الأهم مع حركة "مشروع تونس" ومؤسسها محسن مرزوق، الذي كان مدير الديوان الرئاسي ومدير حملة الرئيس، الباجي قائد السبسي، وأمين عام "نداء تونس" سابقاً.

وأكّدت المصادر وجود هذه الاتصالات والمفاوضات منذ فترة، مشيرةً إلى أنّ مرزوق "ليس لديه اعتراض على المبدأ، ولكن بقي أن يتضح دوره وموقعه داخل الحزب وداخل المشهد السياسي ككل في المرحلة المقبلة". ولكن هذه العودة محفوفة بمخاطر كثيرة لمرزوق، بعد المسافة الكبيرة التي قطعها منذ خروجه من "النداء" ونجاحه في تأسيس حزب وكتلة لها وزن في الساحة السياسية. وهو بهذه العودة يخاطر بكل هذا الرصيد الذي بناه. إلا أنّ المصادر تلفت إلى أنّ هذا الوزن سيتآكل باستعادة "النداء" قوته، وسحب البساط من تحت أقدام الجميع بمنافسة "النهضة"، من خلال خطابه "المسروق منه" بالتنافس مع النهضة واختلاف المشروع المجتمعي وغيرها من الشعارات التي تتقاسمها كل الأحزاب المتفرّعة من "النداء"، وغيرها أيضاً مثل "آفاق تونس" وباقي الأحزاب التي تتصارع على الموقع المنافس لحركة النهضة.

ولكن مرزوق رغم كل هذا، يدرك أنّ رهانه كبير، وهو لم يحسم قراره بعد، لأنّ الأمر متعلّق بمستقبله السياسي، وهو تنافس كبير بين متسابقين كثر، ينظرون جميعاً إلى مرحلة ما بعد السبسي التي يبدو أنها انطلقت مبكراً. وهو، كما غيره، يعرف جيداً أن "النداء" رغم كل مشاكله الشخصية والهيكلية يبقى حصاناً قادراً على التسابق.

ماذا سيتغير في المشهد؟

قال بيان "النداء" إن تحالفه مع "النهضة" بعد الانتخابات كان سبباً وراء "التباسات في الموقف وانتقادات داخل الصف الندائي الذي اخترقته الصراعات والانشقاقات التي كانت في جزء منها نتيجة هذا التوجه. ورغم المبالغة والاستهداف سيّء النوايا لقوة نداء تونس ووحدة صفوفه، فإن الحركة تفتخر بأنها ضحت وقدمت التنازلات ضماناً لاستقرار الدولة ومؤسساتها ولمتطلبات التطور السلس والهادئ لمسار الانتقال الديمقراطي، غير أنها تقف اليوم أمام ضرورة تعديل هذا المسار".

ويفسّر البيان أنّ التحالف قام على أساس ضمان الاستقرار والتطور الهادئ للمسار الديمقراطي، وهو ما لم يتغيّر إلى اليوم، لأن الحزب الذي يقود الحكومة والبرلمان والرئاسة لا يمكنه أن يتنازل عن استقرار البلاد، وهو أشدّ اليوم لأنه أصبح أكثر هشاشة، خصوصاً مع موازنة العام الجديد، وما يرافقها من احتجاجات تتوسّع رقعتها يوماً بعد يوم.

ولفت البيان إلى أن الإطار السياسي الوحيد الذي يجمع حركة "النداء" ببقية شركائها في الحكم بمن فيهم حركة "النهضة"، هو "وثيقة قرطاج"، وأن توافقها الوحيد مع أي طرف سياسي هو "التوافق العام على المصالح العليا للدولة والبلاد". أما خطّها السياسي الرسمي، فهو "خط المنافسة السياسية الذي يتبنى الرؤية الواضحة والمتفردة والمتمايزة عن رؤية بقية المنافسين السياسيين على مستوى المشروع المجتمعي والسياسي الذي تتبناه".

وتؤكّد هذه الفقرة من بيان الحزب، أن "النداء" متشبّث بوثيقة قرطاج، أي بحكومة الوحدة الوطنية، وهو ما يعني أن التنافس مع "النهضة" لن يلغي التحالف الحكومي، إضافة إلى أنّ "النداء" وغيره من الأحزاب، سيكون مضطراً للتنسيق البرلماني بالضرورة. وقد بيّنت التجارب أن "النداء" غير قادر على تمرير قوانين أو انتخاب شخصيات في هيئات رسمية من دون التنسيق مع "النهضة" التي تبقى الكتلة الأولى في البرلمان، إلى الآن على الأقل. وحتى بعودة بقية الكتل إليه، فإن التنسيق مع الكتلة الثانية، الأكثر انضباطاً وحضوراً، يبقى أساسياً لدوران طبيعي وسلس للعمل البرلماني.

ومع الاستحقاقات المقبلة؛ تجديد ثلث هيئة الانتخابات، انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، قانون الجماعات المحلية وغيرها، فإن البرلمان يبقى محتاجاً لحدّ أدنى من التنسيق بين الكتل وأحزابها، وإلاّ فإن شللاً سيضرب البرلمان والمشهد العام بالتالي.

وتقود هذه القراءة إلى الاعتقاد، أن مشكلة الحزب ليست النهضة أساساً، وإنما استعادته قوتَه قبيل استحقاق انتخابي يعرف أن خسارته ستقود إلى إضعافه نهائياً. ولذلك، دعا الحزب في بيانه إلى "التعبئة العامة من أجل كسب الرهان الانتخابي، والانخراط في مسار جديد لتجاوز الخلافات، والتوحّد حول الحزب وهياكله ومرشحيه، وطي صفحة التجاذبات المؤلمة التي عرفتها الحركة، والتوجه نحو توسيع قاعدة الإشعاع الجماهيري لنداء تونس، بالعمل الميداني والالتصاق بمشاغل الشعب التونسي، وتطوير عمل الهياكل الحزبية بما يتناسب مع متطلبات المرحلة".

بقي أنه من المهم الإشارة إلى أنّ هذا التوجه داخل "النداء" لا يحظى بالغالبية المطلقة، رغم أنه يبقى الصوت الأعلى في هذه الفترة. إذ إن قيادات كبيرة ومؤسِسة ولها وزنها في "النداء"، بنت فكرتها على أساس التقارب مع "النهضة"، بل وحاولت تأسيس مرجعية نظرية وتاريخية لهذا التحالف الدستوري الإسلامي الإصلاحي، ربما سيفرز صوتها في الفترة المقبلة.

 

أين النهضة؟

لم يصدر عن "حركة النهضة" موقف رسمي بشأن هذه التطورات إلى حدّ الآن، وإنما بعض التصريحات والتدوينات الشخصية لبعض قياديّيها. وكتب المتحدث الرسمي باسم الحزب، عماد الخميري، أن "النهضة منذ إعلان 17 ديسمبر/كانون الثاني 2017 كتاريخ أولي لإجراء الانتخابات البلدية، قرّرت واختارت أن تشارك فيها على أرضية المنافسة بقائمتها الحزبية الخاصة المنفتحة على الكفاءات الوطنية المستقلة. وهي بذلك أعلنت مبكراً المنافسة الديمقراطية مقابل النداء وغيره من مكونات الأحزاب المنضوية في الإتلاف الحاكم، وهي حريصة على التوافق وعلى فهمٍ لهذا التوافق لا يذيب الخصوصيات الحزبية ولا يصهر العائلات الفكرية المتنوعة التي تمثّل مصدر ثراء في المشهد السياسي الوطني. فالنهضة ستبقى النهضة والنداء هو النداء… والتوافق لا يعني بالمرة إدماج الأحزاب وإزالة الاختلافات بينها… وهو بذلك حسن إدارة الاختلاف لحماية الانتقال الديمقراطي الهش والترفّق به من مخاطر تصعيد منسوب التوتر بما يعين على حفظ الاستقرار الذي تحتاجه بلادنا لإدارة أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية في مرحلة دقيقة".

ويبيّن هذا الموقف للخميري، أن النهضة تستغرب من هذا التحوّل الندائي من التحالف إلى التنافس، لأنه ضمني أصلاً.

وتؤكّد مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد" أنّ هناك نقاشات موسّعة تدور داخل الحركة هذه الأيام على كل مستوياتها لبلورة موقف من هذا التطور الجديد، وأن هناك جملة من السيناريوهات التي يجري تقييمها وبحثها لتحديد موقف واضح، لأن هذا القرار الندائيّ الانتخابي يطرح أسئلة على "النهضة" في علاقتها بقواعدها، والتي كان جزء منها، يعارض التحالف مع "النداء". وقد يصدر عن المكتب التنفيذي للنهضة الذي سينعقد، غداً الأربعاء، موقف يخرج عن الصمت الرسمي الذي طال نسبياً.