غطّت شرارات المفرقعات الناريّة سماء بيروت صيف عام 1998. كانت المدينة تحتفل بنيل لبنان شرف استضافة كأس الأمم الآسيوية لكرة القدم عام 2000.
لم تتأخر ورشة إصلاح الملاعب وتجهيزها. هدرت أصوات محرّكات الجرّافات قبالة بحر مدينة صيدا، جنوب لبنان، في ورشة تشييد ملعب صيدا البلدي. لم يكن صوت آلات الحفر ومحركات المعدات الصناعية الضخمة وحده الطاغي على المشهد الصيداوي. المسافة بين الملعب البلدي ومخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين ليست طويلة.
أمام المخيم يوجد ما يعرف بمنطقة "التعمير". لا توجد آلات ضخمة، ولا مفرقعات داخل منطقة التعمير. الصوت الوحيد الذي عرفته المنطقة هو صوت الشاب فضل شمندر الذي كان يغني في الأعراس والمناسبات السعيدة.
توّجت استضافة لبنان كأسَ الأمم الآسيوية مرحلة إعمارٍ شهدها البلد بعد الحرب الأهلية. كل شيء كان مباحاً في تلك المرحلة. لا مكان للعصاميّين في لبنان بعد العام 1993. وحدها شاشات الفضائيات كانت تستقبل مغامرين بصورة مغنين ومطربين وراقصين.
جرّب فضل شمندر حظه أيضاً. حمل "الأورغ" وغنّى في المرابع الليليّة على طريقة الـ"وان مان شو". حازت أغنية "أوعا تصدقني" إعجاب الشارع اللبناني في صيف 1998. كانت الأغنية من ألبوم فضل شاكر الأول "والله زمان".
أصبح فضل شاكر الأغنية الحاضرة بين كلّ عاشقَين خلال سنة فقط. غنّى "بياع القلوب"، "متى حبيبي"، "ياغايب"...، وأحبّ الناس الصدق في إحساسه. هذا الصدق انعكس على خياراته الفنية والسياسية لاحقاً. لم يجد الحياد في أزمة لبنان السياسية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005. لم يقف مع باقي المطربين في أغنية وطنية موحدة. نعى ابن مدينته صيدا رفيق الحريري في أغنية منفردة هي "مهما صار بالقلب باقي".
تطور موقف فضل شاكر طبيعياً نسبة لسياق الأحداث. لا تنطلي بدعة المواقف الوسطية للفنانين اللبنانين على أحد. ذاب فضل كلياً في الشارع. نزل إلى الأرض التي كانت تفرز الشباب حسب هوية المذهب، فانتهى خلف السلاح، شأنه شأن آلاف الشبان اللبنانيين. انتهى بموقف متطرف أخيراً خلف ظاهرة الشيخ أحمد الأسير.
اختفى "بيّاع القلوب" خلف لحية طويلة، واختار "ديو" مع الشيخ الأسير! كان الخيار الأصعب والأكثر مرارة، لكن الأشد حقيقية لصورة النزاع اللبناني المذهبي. فضل الذي نال الجنسية الفلسطينية رمزياً، نال أيضاً مذكرة توقيف من قبل المحكمة اللبنانية. فضل الهادئ، الجذاب، صاحب الصوت الذي لا يفارق ليالي العشاق، ظهر في فيديو مقاتلاً يتحدث عن "فطائس". كانت نهاية فضل نهاية حقبة أيامنا الجميلة في التسعينيات. نحن الذين أعدنا بناء المتاريس المذهبية وارتدينا أقنعة التحابب المزيّف. كان فضل حقيقياً أكثر من الجميع. فضل شاكر مُدان ولكنه ليس وحده..