08 يوليو 2019
فروغ وإبراهيم
ثنائيات الحب عديدة، قد تبدأ بأوفيد، شاعر روما، وجوليا، حفيدة الإمبراطور أوغسطس، ولا تنتهي بالشاعر الإنكليزي تيد هيوز والشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث. أما ثنائيات الحب العربية ففاقت الحصر، حتى تكونت لدينا ظاهرة حب، نادرة، هي الظاهرة العذرية. والقاسم المشترك بين هذه الثنائيات نهاياتها المأساوية. فأوفيد نفاه الإمبراطور أوغسطس إلى بقعة مظلمة من الإمبرطورية (في رومانيا الحالية) لم يعد منها قط إلى روما. أما سيلفيا بلاث فانتهت منتحرة بعد علاقة حب (وزواج) بتيد هيوز، الذي يبدو أن قدر من ترتبط به الانتحار. لأن هذا حدث مرة ثانية في حياته. وكلنا نعرف مصائر جنون وموت عروة عاشق عفراء، وقيس مجنون ليلى، والمرقَّش الأكبر صاحب أسماء، مروراً بقصص موت دون وصال كما هو حال روميو وجولييت، شكسبير، وتريستان وإيزولدا، الأسطورة و"الموت حباً" عند فاغنر.
لا بدَّ أن هناك الكثير من قصص الجنون والموت حباً في ثقافات شعوب عديدة. فقصص الحب، كما كتبت مرةً، لا معنى لها إن تحقَّقت. لا قصة (= لا أسطورة!) في قصة حب تنتهي إلى "عشّ" الزوجية. فهذا "نمط" قصة الحب النموذجية. لكن هناك قصص حب أقل درامية مما ذكرت. منها ما أخبرتنا به رسائل "عشاق" غادة السمان. لا تبدو لنا قصة حب غسان كنفاني لغادة السمان من النوع الذي ترك هزَّة في حياة "الحبيبين". لا ذكر لذلك في ما نعرفه من حياتهما ولا من نتاجهما. فلسطين وليست غادة السمان سبب اغتيال غسان كنفاني بتفجير سيارته في صباح صيف بيروتي، بدا عادياً حتى اللحظة التي اهتزَّت فيها ضاحية الحازمية، التي كان يقيم فيها غسان. وفلسطين حبٌّ ولكن من نوع آخر، ولها موتها الذي لا يسمَّى موتاً بل شهادة. وقبل أيام كشفت "الغارديان" البريطانية عن وجود عاشق الشاعرة الإيرانية الشهيرة، فروغ فرخزاد، حياً يرزق في التسعينيات من عمره في مقاطعة سسيكس الانكليزية. إنه المخرج الإيراني، إبراهيم غلستان، المنفي طوعاً إلى بريطانيا منذ عام 1975 احتجاجاً على نظام الشاه. فروغ كانت شابة صغيرة عندما جاءت إلى الأستديو الكبير، الذي كان يديره غلستان، في طهران، ووظفها عاملة هاتف. كانت فروغ قد تطلقت من زواج مبكر (16 عاماً) وتركت الأحواز، حيث كانت تقيم مع زوجها، وعادت إلى طهران. لم يذكر تحقيق الغارديان ما إذا كان إبراهيم غلستان يعرف أنها شاعرة أم لا، أو كيف بدأت علاقة الحب بينهما، لكن المؤكد أن هذه العلاقة بدأت بعد بضعة أشهر على عملها معه، ولم تبق عاملة هاتف. ففي سجلها هناك فيلم سينمائي عملا عليه معاً.
ما هو تأثير إبراهيم عليها؟ مؤرخو أدب إيرانيون يقولون إنه تأثير بالغ. فهو الذي عرفها بأدب الحداثة الغربية. تذكّرني الفترة التي شهدت علاقتهما وتحولات فروغ الشعرية بالفترة نفسها من عمر "الحداثة" الشعرية العربية: منتصف خمسينيات القرن الماضي. لا معرفة لي بالأدب الإيراني تسمح لي بمزيد من المقارنة، لكن اللافت أن أواخر خمسينيات القرن العشرين، الفترة التي بدأ يسطع فيها نجم فروغ فرخزاد، هي نفسها التي تفجّرت فيها التجارب الشعرية العربية الحديثة عبر مجلتي "الآداب" و"شعر" البيروتيتين، ويمكن القول إننا حصلنا على فروغ عربية هي نازك الملائكة.. قد لا تكون المقارنة دقيقة بين الشاعرتين لجهة أن نازك نكصت عن "حداثتها" فيما لم تفعل فروغ، التي لم تعطها الحياة سوى اثنين وثلاثين عاماً. وهذه هي فترة الثورة في عمر البشر. قد ينكصون بعدها، مثلما فعلت الملائكة. وهذا هو العمر الذي تتكون فيها أساطير الشعراء والشاعرات. لا أسطورة لمن يتجاوز الأربعين من العمر، بل لا قفزات جمالية وفكرية بعد هذا العمر، بحسب دراسات تناولت الابداع في عمر الإنسان. وعلى عكس غادة السمان التي لم تنشر رسائلها (إلى غسان كنفاني مثلاً) فإن كتاب مراسلات إبراهيم وفروغ لم يتضمن رسائل العاشق لمعشوقته. وعندما سئل إبراهيم، لماذا؟ قال: لا يحتفظ المرسل بنسخ من رسائله! وهذا ما قالته غادة. ولكن لماذا لا أصدّقها؟ فمن يخطط لجمع رسائل، ويخطط لنشرها، لا يغفل تفصيلاً كهذا إلا قصداً.
لا بدَّ أن هناك الكثير من قصص الجنون والموت حباً في ثقافات شعوب عديدة. فقصص الحب، كما كتبت مرةً، لا معنى لها إن تحقَّقت. لا قصة (= لا أسطورة!) في قصة حب تنتهي إلى "عشّ" الزوجية. فهذا "نمط" قصة الحب النموذجية. لكن هناك قصص حب أقل درامية مما ذكرت. منها ما أخبرتنا به رسائل "عشاق" غادة السمان. لا تبدو لنا قصة حب غسان كنفاني لغادة السمان من النوع الذي ترك هزَّة في حياة "الحبيبين". لا ذكر لذلك في ما نعرفه من حياتهما ولا من نتاجهما. فلسطين وليست غادة السمان سبب اغتيال غسان كنفاني بتفجير سيارته في صباح صيف بيروتي، بدا عادياً حتى اللحظة التي اهتزَّت فيها ضاحية الحازمية، التي كان يقيم فيها غسان. وفلسطين حبٌّ ولكن من نوع آخر، ولها موتها الذي لا يسمَّى موتاً بل شهادة. وقبل أيام كشفت "الغارديان" البريطانية عن وجود عاشق الشاعرة الإيرانية الشهيرة، فروغ فرخزاد، حياً يرزق في التسعينيات من عمره في مقاطعة سسيكس الانكليزية. إنه المخرج الإيراني، إبراهيم غلستان، المنفي طوعاً إلى بريطانيا منذ عام 1975 احتجاجاً على نظام الشاه. فروغ كانت شابة صغيرة عندما جاءت إلى الأستديو الكبير، الذي كان يديره غلستان، في طهران، ووظفها عاملة هاتف. كانت فروغ قد تطلقت من زواج مبكر (16 عاماً) وتركت الأحواز، حيث كانت تقيم مع زوجها، وعادت إلى طهران. لم يذكر تحقيق الغارديان ما إذا كان إبراهيم غلستان يعرف أنها شاعرة أم لا، أو كيف بدأت علاقة الحب بينهما، لكن المؤكد أن هذه العلاقة بدأت بعد بضعة أشهر على عملها معه، ولم تبق عاملة هاتف. ففي سجلها هناك فيلم سينمائي عملا عليه معاً.
ما هو تأثير إبراهيم عليها؟ مؤرخو أدب إيرانيون يقولون إنه تأثير بالغ. فهو الذي عرفها بأدب الحداثة الغربية. تذكّرني الفترة التي شهدت علاقتهما وتحولات فروغ الشعرية بالفترة نفسها من عمر "الحداثة" الشعرية العربية: منتصف خمسينيات القرن الماضي. لا معرفة لي بالأدب الإيراني تسمح لي بمزيد من المقارنة، لكن اللافت أن أواخر خمسينيات القرن العشرين، الفترة التي بدأ يسطع فيها نجم فروغ فرخزاد، هي نفسها التي تفجّرت فيها التجارب الشعرية العربية الحديثة عبر مجلتي "الآداب" و"شعر" البيروتيتين، ويمكن القول إننا حصلنا على فروغ عربية هي نازك الملائكة.. قد لا تكون المقارنة دقيقة بين الشاعرتين لجهة أن نازك نكصت عن "حداثتها" فيما لم تفعل فروغ، التي لم تعطها الحياة سوى اثنين وثلاثين عاماً. وهذه هي فترة الثورة في عمر البشر. قد ينكصون بعدها، مثلما فعلت الملائكة. وهذا هو العمر الذي تتكون فيها أساطير الشعراء والشاعرات. لا أسطورة لمن يتجاوز الأربعين من العمر، بل لا قفزات جمالية وفكرية بعد هذا العمر، بحسب دراسات تناولت الابداع في عمر الإنسان. وعلى عكس غادة السمان التي لم تنشر رسائلها (إلى غسان كنفاني مثلاً) فإن كتاب مراسلات إبراهيم وفروغ لم يتضمن رسائل العاشق لمعشوقته. وعندما سئل إبراهيم، لماذا؟ قال: لا يحتفظ المرسل بنسخ من رسائله! وهذا ما قالته غادة. ولكن لماذا لا أصدّقها؟ فمن يخطط لجمع رسائل، ويخطط لنشرها، لا يغفل تفصيلاً كهذا إلا قصداً.