الحصاد الثقافي الفرنسي لعام 2016 قد يكون واحداً من الحصادات الأكثر فتوراً في العقد الأخير، ويعود السبب تحديداً لموجة الكآبة والهلع العارمة التي خلّفتها الاعتداءات الإرهابية في 2015 وتواصلها في العام المنقضي، خصوصاً اعتداء الدهس المروّع في مدينة نيس، يوم العيد الوطني الفرنسي، وقتل الراهب في الصيف الماضي، ما أثّر على الإنتاج الثقافي وأضعف التفاعل معه.
رغم مجموعة المثبطات هذه استمرّت ماكينة الإنتاج الروائي الفرنسي على وتيرتها وشهد الموسم الأدبي الشتائي في مستهلّ العام صدور 476 رواية فرنسية وأجنبية من بينها 73 رواية أولى لكتّابها. وكالعادة كان للكتّاب المكرّسين حضور قويّ ومن بينهم أوليفيه آدم برواية "الانقلاب" وجان ايشنوز برواية "المبعوثة الخاصة" والطاهر بن جلون وروايته "زواج المتعة"، وأيضاً الكاتب المخضرم "جان دورموسون (91 عاماً) الذي لاقى احتفاء كبيراً بعد إصداره كتابه السردي الذي يشبه الوصية وعنوانه "سأقول رغم كل شيء بأن هذه الحياة كانت جميلة" وهو عنوان مقتبس من قصيدة للشاعر الراحل لويس أراغون.
واصلت ماكينة الرواية الفرنسية وتيرة إنتاج عالية في موسم الخريف الذي شهد صدور 560 رواية من بينها 363 رواية فرنسية والباقي مترجم عن اللغات الأجنبية وأيضاً 66 عملاً روائياً أولاً لكُتّاب جُدد يخوضون مغامرة السرد لأول مرة.
يتوّج الموسم الأدبي كما في كل عام بالإعلان عن جوائز الخريف وعادت أبرزها، "غونكور"، إلى الكاتبة المغربية الفرنكوفونية ليلى سليماني (35 عاماً) عن روايتها "أغنية ناعمة" وهي ثالث فائز عربي بها.
شكّل فوز سليماني بهذه الجائزة مفاجأة كبيرة واعتبرها البعض مبادرة سياسية لتشجيع الانفتاح على المكوّن المغاربي الفرنسي في سياق تتصاعد فيه الحملات العنصرية وقُرئت أيضاً كنوع من التعويض على عدم تتويج الجزائري كمال داود في الدورة السابقة بفارق صوت فقط. وبين موسمي الشتاء والخريف، انعقدت الدورة السادسة والثلاثون من "معرض باريس الدولي للكتاب" في الربيع الماضي بمشاركة 25 بلداً و4500 كاتب.
وكانت مدينة قسنطينة الجزائرية والأدب الجزائري ضيفا شرف هذه الدورة في ما يشبه الرد اللطيف على اختيار فرنسا كضيفة شرف في "معرض الجزائر الدولي للكتاب" 2015.
إذا كانت الاعتداءات الإرهابية لا تمثّل سوى خلفية عامة في الأعمال الروائية، فإنها في الكتب الفكرية والسياسية تمثّل محوراً أساسياً تتطرّق له الأعمال، خصوصاً مع صعود موجة إسلامفوبيا كاسحة انتشرت في صفوف الفرنسيين شعباً ونخبة.
في هذا السياق، صدرت العشرات من الدراسات جلّها مطبوعة بنظرة سطحية ويغلب عليها الطابع الصحافي المتسرّع. ومن أبرز ما صدر في هذا المجال كتاب "الشرخ" لـ جيل كيبيل وتتلخص فكرة الكتاب في أن الهدف الأساسي للإرهاب "الجهادي" هو إحداث شرخ في المجتمع الفرنسي من خلال تكثيف الاعتداءات الإرهابية خصوصاً تلك التي تستهدف التجمّعات السكانية الكثيفة وتحدث خسائر بشرية كبيرة. هذه الاعتداءات تعمّق، حسب كيبيل "من درجة الرعب في المجتمع وتوجّه الحقد ضد المسلمين. والهدف هو خلق بذور حرب أهلية في فرنسا بين المسلمين وبقية الشعب الفرنسي".
في المقابل، اجتهد بعض الدارسين الجادّين بعيداً عن الضوضاء الإعلامية على مقاربة التحديات الجديدة التي يفرضها الإرهاب العالمي على المجتمع الفرنسي، ومنهم أنطوان غاربون وميشال روزينفيلد اللذان أصدرا كتاب "الديمقراطيات تحت الضغط.. تحديات الإرهاب المُعولَم". وفي هذا الكتاب تناول المؤلفان حالة الرعب التي تسود الفرنسيين من أعمال العنف المفاجئة واعتبرا بأن رد الفعل الأمني عبر حالة الطوارئ وعسكرة المجتمع ليست بالضرورة الجواب المثالي.
ويرى الكاتبان أن الرد المناسب قد يكون في قدرة المجتمع على إعادة منح فكرة العيش الجماعي والمشترك البعد الوجودي الذي فقدته فرنسا بسبب الأنانية والفردية التي تكرّسها الليبرالية المتوحشة. وانتقد المؤلفان زوال فكرة الانتماء السياسي وانهيار الرابط الأيديولوجي وعجز السياسيين عن بلورة عرض فكري مغر واعتبروا هذه الأسباب روافد مغذية للرعب الإرهابي.
فنياً، احتضنت فرنسا عشرات المعارض اللافتة والتظاهرات المختلفة منها معرض حول الحركة السوريالية نظمه "متحف بومبيدو للفن المعاصر" وخُصّص جزء منه للسوريالية المصرية تحت عنوان "الفن والحرية. القطيعة، الحرب والسوريالية في مصر (1938-1948)". وقد عرض المتحف أعمالاً لفنانين سورياليين مصريين مثل رمسيس يونان وإنجي أفلاطون وأنور كامل وكامل التلمساني ومحمود سعيد والشاعر جورج حنين.
كما احتضن "متحف القصر الكبير" معرضاً هاماً عن الفن الأفريقي ممثلاً بأربعة فنانين، هم الماليّان سيدو كيتا وعبدالله آي كوناتي والبينيني دومينيك زينكبي والنيجيري جورج آدياغبو.
كما احتفت باريس مرة أخرى بالفنان الإسباني بابلو بيكاسو من خلال معرض كبير افتتح في الربيع الماضي في المتحف الذي يحمل اسمه في باريس تحت عنوان "منحوتات بيكاسو". وضمّ المعرض حوالى 200 عمل نحتيّ عُرضت وفق تسلسل زمني يعكس مسيرته الفنية منذ بداياته مطلع القرن العشرين حتى الستينيات.
وشهد "معهد العالم العربي" في باريس حدثاً بارزاً هذا العام تمثل في افتتاح معرض "حدائق من الشرق" الذي تم تنظيمه في خمس مراحل وفي طابقين يضمّان لوحات وصوراً وأفلام فيديو ومستندات تسرد تاريخ الحدائق الشرقية على مدار القرون.
واشتمل المعرض على حوالى 300 قطعة فنية، من تماثيل ومنحوتات وسجّاد ونماذج مصغرة استعارها المعهد من عدة متاحف عالمية وأيضاً من مقتنين. وتروي المعروضات قصص مجموعة من الحدائق منها حدائق بابل المعلقة وحديقة الأزهر في القاهرة وحدائق قصر الحمراء في غرناطة وغيرها.