فرنسا في حالة حرب: النقابات تحاصر العاصمة

30 مايو 2016
وصلت المواجهة بين الحكومة والنقابات إلى نقطة اللاعودة(جوليان بيتينوم/Getty)
+ الخط -
كان الصباح مختلفاً عن غيره في محطة قطارات "كينغز كراوس" في لندن يوم الجمعة في السابع والعشرين من مايو/ أيار الحالي، حيث بلغ الازدحام ذروة لم يصلها في تاريخ قطار "يورو ستار" الذي يربط بين العاصمتين الفرنسية والبريطانية في مهلة ساعتين، ينقضي نصف ساعة منها بعبور النفق أسفل بحر المانش، الذي يعد قناة الاتصال المباشرة الوحيدة بين بريطانيا وأوروبا، التي سهلت لنسبة كبيرة من المسافرين في الاتجاهين، الاستغناء عن ركوب الطائرات والبواخر.

ازدحام تستثمره شركة "يورو ستار" برفع تذاكر السفر من لندن في اتجاه باريس بما يتجاوز ثلاث مرات قيمتها في الحالات العادية، ويضاعف من وطأة ذلك نفاد التذاكر لأيام عدة. ووسط الاستنفار الذي عرفته المحطة كان السؤال عن سرّ هذه التطورات المفاجئة. هناك سببان: الأول أن حركة النقل البري بين فرنسا وبريطانيا باتت شبه متوقفة بسبب شح الوقود في فرنسا من جراء الإضرابات التي عطلت تمويل محطات البترول في باريس. والثاني أن جماهير كرة القدم بدأت بالتدفق منذ الآن لكي تشهد منافسات كأس أوروبا 2016 في دورتها الخامسة عشرة التي تدوم لمدة شهر وتبدأ يوم العاشر من شهر يونيو/حزيران، وهذه البطولة محط اهتمام عشاق كرة القدم في أوروبا الذين يعدونها مونديال القارة الذي يتم تنظيمه مرة كل أربع سنوات، ويحظى البلد المضيف بفرصة سياحية ثمينة من خلال قدوم جمهور الكرة الأوروبي.
يزدحم المسافرون في محطة "كينغز كراوس"، ولا فرق بين من حصل على حجز بمقعد محدد، وبين من حصل على حجز بلا مكان. الكل وصل إلى المحطة التي يعبرها قرابة خمسين ألف مسافر يومياً في الاتجاهين، وفي ظل حالة من التعب تهيمن على الكوادر الفرنسية المسيرة للقطار والتشتت الذي يعيشه المسافرون. وحدهم المسافرون البريطانيون يتمتعون بمعنويات عالية تغذيها نرجسية تكونت في السنوات الأخيرة، منطلقة من أن لندن تجاوزت باريس، وفي خضم هذا الزحام يتردد بينهم حديث عن أن وزارة الخارجية أصدرت تعميماً بعدم السفر إلى باريس في هذا الوقت. وفي العادة لا تصدر السلطات المختصة توجيهاً من هذا القبيل إلا في ظروف استثنائية جداً، وحتى حين واجهت باريس الاعتداءات الإرهابية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لم يتم اللجوء إلى هذا التدبير. ومعنى ذلك أن لندن ترى الوضع في باريس على درجة كبيرة من الخطورة تفوق التهديد الإرهابي. فماذا يحدث في باريس؟

تظهر على الصفحة الأولى من صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، اليمينية، صورتان. واحدة لوزير الدفاع جان إيف لودريان وتحتها جملة: "لم نعد في حالة سلم". ولكن الصورة الأكبر هي التي تحتل نصف صفحة لشخص آخر وفوقها جملة "هذا هو الشخص الذي يريد تركيع فرنسا". ومن لا يعرف فرنسا يذهب فوراً إلى الربط بين الصورتين والجملتين، ولكنهما ليستا على صلة مباشرة. في الأولى يتحدث وزير الدفاع الفرنسي عن كتابه الذي نزل في ذلك اليوم إلى الأسواق تحت عنوان "من هو العدو؟"، ويخصصه للحرب ضد الإرهاب.

أما الرجل الثاني فهو فيليب مارتينيز الأمين العام لنقابات عمال "سي جي تي" (الكونفيدرالية العامة للعمل)، المقربة تاريخياً من الحزب الشيوعي الفرنسي. هذه النقابات تقود منذ بداية العام مواجهة مفتوحة مع الحكومة من أجل دفعها إلى سحب قانون العمل الجديد. وشكلت هذه المواجهة مفاجأة للقاصي والداني، ذلك أن المعروف هو أن الحزب الشيوعي بات في حكم المنتهي في فرنسا ولم يعد له أي تأثير في مجريات الوضع العام، وهذا أمر انسحب، جزئياً، على النقابات التي تدور في فلكه لزمن طويل، وهي بدورها تضعضعت بعدما نشأت نقابات أخرى تابعة للحزب الاشتراكي مثل "سي اف دتي"، ولكن تطورات الأشهر الأخيرة كشفت عن أن "سي جي تي" لا تزال فاعلة وقادرة على تنظيم حالة الاحتجاج التي وصلت إلى مصاف بات يهدد بانفجار كبير.
وتمثل استعادة "سي جي تي" لدورها في نقلات نوعية عدة. الأولى أنها برهنت على بعدها عن الحزب الشيوعي وتحولها إلى القوة اليسارية الأولى المعبّرة عن مصالح العمال وأصحاب الدخل المحدود. وعلى الرغم من أن تعداد أعضائها لا يصل المليون من أصل 24 مليون عامل في فرنسا، فهي تشكل القوة النقابية الأولى التي تتمركز قوتها في قطاعات النقل والطاقة والتعدين. والأمر الثاني أنها تمكنت في مؤتمرها الأخير، الذي انعقد في إبريل/ نيسان الماضي، من حسم وضعها الداخلي وتجاوز حالة من الترهل وباتت قيادتها في يد مجموعة بزعامة مارتينيز، المولود في فرنسا عام 1961 من أب إسباني كان محارباً في "الكتائب الثورية" خلال الحرب الأهلية عام 1936 ضد فرانسيسكو فرانكو، ويبدو أن والده أورثه الروحية المتأججة حتى أن صورته تحيل إلى المقاتل بشاربه الكثّ. وظهر مارتينيز في أكثر من مرة، خلال الأشهر الأخيرة، يتقدم صفوف المتظاهرين والمواجهات مع قوات مكافحة الشغب، وهناك صورة شهيرة له وهو يلقي إطار سيارة في النار على أحد حواجز قوات الأمن التي تحرس إحدى المصافي. واعتبرت صحيفة "لوموند" أن هذه الصورة احتلت مكاناً خاصاً في المخيلة الفرنسية، ووضعت الصحيفة مارتينيز في مكانة "زعيم المعارضة اليسارية"، بينما استخدمتها "لوفيغارو" لتخويف الرأي العام من النقابات.
ثالثاً، فإن "سي جي تي"، التي دعت في 2012 للتصويت لصالح الرئيس فرانسوا هولاند، في الانتخابات الرئاسية ضد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، تدخل في معركة كسر عظم مع الرئيس الحالي، لم يعد فيها مجال للعودة إلى الوراء. في هذا الإطار، اتهم مارتينيز هولاند صراحة بـ"خيانة التزاماته" والتزامات اليسار بشكل عام.

تعيش فرنسا حالة من الترقب والقلق، الذي يتفاقم في كل يوم، وستكون واحدة من محطاته يوم غد الثلاثاء، من خلال الإضراب المفتوح الذي دعت له "سي جي تي"، وسيشمل كافة القطاعات، وخصوصاً النقل. ويضم قطاع النقل القطارات والمطارات، أي تعطيل الدولة وقطع صلتها بالعالم الخارجي، وهذه الموجة تأتي استكمالاً لموجات أخرى في الأيام الماضية، حيث تمت محاصرة المصافي لمنع تزويد محطات الوقود بالبترول، وتم إيقاف خمس محطات توليد كهربائية تعمل بالطاقة النووية من أصل 16 محطة، وهناك تهديدات بوقف البقية. وهذا يعني أن قطع التيار الكهربائي عن فرنسا أمر ممكن، وليس تهديداً فقط، مما يدل على أن هناك ضربات موجعة يمكن أن تسددها "سي جي تي" للحكومة الفرنسية، في حال أصرت على موقفها.

تدور المواجهة من حول قانون العمل، الذي قدمته حكومة رئيس الوزراء مانويل فالس، الذي يوصف بأنه الأكثر يمينية في تاريخ رؤساء وزراء فرنسا، وقد أدى بأطروحاته المغرقة في الليبرالية إلى إحداث أكثر من انشقاق داخل الحزب الاشتراكي. وعلى الرغم من أن سياساته لا تحوز على أي رضى شعبي، فإن رئيس الدولة، فرانسوا هولاند، سانده وفضّله على خصومه من المعتدلين داخل الحزب، وهذا سينعكس سلباً على حظوظه في الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، التي لا يخفي هولاند عزمه على خوض غمارها من أجل ولاية ثانية. لكن تطورات الأيام الأخيرة تظهر أن الحكومة خسرت معركة الرأي العام. وتفيد الاستطلاعات، التي صدرت يوم الجمعة الماضي، أن 66 في المائة من الفرنسيين يرون أن الحكومة خسرت الرأي العام. والسؤال هل تربح الحكومة المواجهة مع نقابات "سي جي تي"؟

لا أحد يمتلك إجابة قاطعة، لكن المؤشرات كافة تؤكد على أن النقابات لن تتراجع أمام قانون العمل الجديد، وخصوصاً المادة الثانية التي يصفها مراقبون بأنها على درجة كبيرة من الخطورة، حتى أن رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة، مارغريت تاتشر، لم تتمكن من تحقيقها في نزاعها مع النقابات البريطانية في فترة الثمانينات، وهي تعني، في صورة لا تقبل الجدل لأرباب العمل سلطة التحكم بقرار العمال على غير ما هو معمول به الآن، حيث تمتلك النقابات قرار العمل، وبموجب المادة الثانية يصبح في وسع رب العمل أن يتحكم إلى حد كبير بقرار العمال.

وسط هذه الحرب تقف سيدة مغربية، هي مريم الخمري، التي تتولى منصب وزيرة العمل منذ سبتمبر/أيلول الماضي. أخذت الخمري على عاتقها أن يحمل اسمها هذا القانون سيئ الصيت بالنسبة للطبقة العاملة الفرنسية، التي تعدّ أحد حصون الدفاع عن المهاجرين الأجانب في وجه العنصرية، وتشكل حالة الاختلاط داخلها إجابة صريحة على دعوات الصفاء العرقي التي ترفعها قوى اليمين العنصري.

مريم الخمري مواليد مدينة الرباط في العام 1978 من أب مغربي وأم فرنسية، وصلت إلى فرنسا في منتصف الثمانينات وعمرها تسع سنوات، وعاشت العائلة في مدينة بوردو سنوات عدة. وبعدها انتقلت لباريس في منتصف التسعينات، حيث درست الفتاة الحقوق وبدأت تنخرط في عمل البلديات إلى جانب عمدة باريس السابق الاشتراكي، برتران دولانويه، لكنها لم تنتسب للحزب الاشتراكي حتى العام 2002. ثم تم تعيينها عضواً في مجلسه الوطني في العام 2008، وصعدت للمكتب السياسي في العام 2012. وفي 2014، عُيّنت أمينة وطنية للحزب، وهنا دخلت الحكومة كمساعدة وزير مكلفة بالشؤون الاجتماعية (سياسة المدن). وباتت منذ 2 سبتمبر الماضي وزيرة للعمل، وهو ما أثار استغراباً واسعاً، بالنظر إلى أنها بلا تجربة في العمل الحكومي وجرى تسليمها وزارة في منتهى الأهمية، في وقت تحتل فيه البطالة ونزاعات العمل أولوية في هذا البلد. ولذلك لم تتفاءل الأوساط بنجاح المهام المطروحة عليها وعلى رأسها إصلاح قانون العمل من خلال تمرير مشروع العمل الذي تدور من حوله المواجهة.
مريم الخمري وصلت إلى فرنسا في عمر تسع سنوات، وتقول سيرتها إنها حاولت أن تداري خجلها من خلال أداء أدوار على المسرح، وكان حلمها أن تصبح ممثلة ناجحة، ولكن شهوة السلطة أخذتها لأداء دور سياسي في مسار الأحداث السياسية الراهنة فوق خشبة مسرح ملتهب يهدد بإشعال حريق كبير خلال هذا الصيف.

صحيح أن الحياة في باريس تبدو شبه عادية، لكن الهدوء الراهن ليس أكثر من استراحة محاربين وصلت المواجهة بينهما إلى نقطة اللاعودة، وليس هناك حل يلوح في الأفق قبل أن ينكس أحدهما سلاحه. الطرف الذي يمتلك من أوراق القوة أكثر من الآخر هو "سي جي تي"، التي فاجأت حكومة فالس بقدرتها على رص الصفوف، بينما خسرت الحكومة في نظر الرأي العام، بسبب فشلها في إدارة الأزمة، التي حاولت حسمها بقوة العضلات. وعلى الرغم من أن هذا الخيار أضرّ كثيراً بسمعة الحكومة ورئيسها، لكنه لا يزال موضوعاً فوق الطاولة، فأوساط النقابات تعتبر فالس (من أصل إسباني أيضاً) شخصاً مراوغاً ويميل إلى العنف ومثله الأعلى الرئيس السابق نيكولا ساركوزي. ولذا يلوح في الأفق سيناريو كارثي قد تقدم عليه حكومة فالس، ويمكن قراءة بعض ملامحه بين سطور الخطاب الإعلامي، الذي بات مركزاً ضد مارتينيز الذي وصفته صحيفة "لوفيغارو" بأنه "يريد تركيع فرنسا"، وأن "سي جي تي" تمارس انقلاباً.

قانون العمل اليوم في مجلس الشيوخ وسيعود إلى مجلس النواب في نهاية يونيو/حزيران المقبل، ولكن المواجهات التي تدور في الشوارع ترشح فرنسا لسيناريو حرب بين الحكومة والنقابات.
المساهمون