فردوس الحكاية الكاذب.. يا علي

12 مارس 2015
مشهد من العرض
+ الخط -

يجسّد الاعتراف والحنين قوامَ العرض المونودرامي، "ألاقي زيّك فين يا علي"، الذي كتبته وأدّته رائدة طه، على خشبة "مسرح بابل" في بيروت، تحت إدارة المخرجة لينا أبيض.

رائدة طه هي ابنة شهيد فلسطيني (علي طه) نفّذ مع رفاق له عملية مطار اللّد عام 1972 عقب خطفهم طائرة بلجيكية والهبوط بها في فلسطين لمبادلة الرهائن بمئة فدائي كانوا معتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

غير أن الحنين في هذا العمل مشوب بخيبة، غير ثقيلة ولا شاكية، من وجهة نظر الممثلة/الابنة، التي تفتتح العرض على نحو مباشر، وبلا أي تمهيد، بعدما تتذكّر دخول قيادي فلسطيني عليها، وتحرّشه بها في فندق بتونس حيث كانت تعمل مع ياسر عرفات، ولم تكن آنذاك قد تجاوزت الـ 24 عاماً. تذكُّرٌ يبعث على التقيؤ، كما حدث مع رائدة التي دفعها الحادث المذكور إلى قيئه وطرده من جسدها كما يطرد مريضٌ سمّاً وألماً.

تعيد رائدة طه قراءة صورة الشهيد/والدها، من زاوية مزدوجة: إحالته إلى رمز، كما في المظاهرات وطقوس التشييع، أي تجريده من كونه شخصاً بذاته له زوجة وأطفال من جهة؛ والصلة العائلية من خلال سلوك الأم وبقية أخواتها، من جهة ثانية، إثر فقدان الأب، ثم حصولهن على امتيازات يغدقها القادة على بعض أبناء وبنات الشهداء، من هدايا وتأمين فرص للتعليم، إضافة إلى بطاقات مجانية للسفر وارتياد الأندية، وسواها من منح غايتها تعويض البنات اليتيمات عن فقدان والدهن.

توجز المسرحية مقارنة سياسية/إنسانية غير معهودة في أدبيات المنظمات والفصائل الفلسطينية، ولا تتخذ من التنظير المتعالي عن الوقائع مادة حكايتها، بقدر ما تتناول حوادث معينة متصلة - منقطعة، ومراحل تمزج بين الشتات الفلسطيني وعلاقته مع مدن وبلدات الداخل، خصوصاً مدينة القدس حيث العمّة والعم وبقية العائلة. سيمضي وقت طويل حتى نكتشف أن العمّة (سهيلة)، التي لا تجيد القراءة والكتابة، تنجح في استرداد جثمان شقيقها الذي بقي في داخل ثلاجة لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ثم تشيّعه في جنازة مهيبة تنتهي بدفنه في الخليل بدلاً من القدس، بسبب رفض الاحتلال.

تلجأ رائدة طه في سرد حكايتها إلى وثائق وصور ورسائل تقرأ بعضاً منها تعود إلى تلك الفترة، وهي بذلك تجمع حاضر الابنة بماضي الأب، كأنها تحيي ما انقطع وترتق ما تمزق ولم يدوَّن خارج الإطار السياسي. غير أن هذا الربط لا يبقى رهين التوثيق فقط، إذ تضاف إليه مواقف مضحكة هي من صلب الحياة وغير مقحمة عليها، من بينها حسد صديقات لرائدة على حالها "المترفة"، حدّ تمنّي واحدة منهنّ استشهاد والدها، فلا تتحقق أمنيتها وحسب، بل تفقد والدها ثم زوجها.

وعلى هذا النحو المتماوج والمتردّد بين الشخصي والعمومي، السياسي الضبابي والعائلي الحميم، تفتح رائدة طه نافذة جديدة كي توسّع من مشهدية باتت يوميّة لدى فلسطينيين طالت مأساتهم. وبذلك تبقى متحررة من ثقل الشعارات، على القدر الذي يمكن ويجدر بدموع طفلة تتذكر أباً من خلال الأم والعمة وبقية أصدقاء الوالد.

وكل هذا التركيز الذي يتداعى بخفة من مقطع إلى آخر، تحكيه رائدة وهي جالسة على أريكة كما لو كانت في بيتها، طوال العرض الذي تقطعه ومضات تلعب الدور الذي يلعبه تقطيع المسرحية من فصل إلى فصل.

ولمُشاهدٍ أن يذهب برأيه حدّ لوم عمليات خطف الطائرات ومجمل بطولات الفدائيين الفلسطينيين، وعطف ذلك على الواقع الحالي القاتم. غير أن رأياً كهذا يبقى ناقصاً؛ ذلك أنه يحمل الوعي نفسه الذي يبني على النسيان والجَلْد ما تخلّفه سياسات خاطئة إزاء قضية عادلة. فالحقيقة التي هي جوهر العرض، تحكيها وجهة نظر طفلة لم تعد طفلة الآن، تجمع في داخلها طيفاً واسعاً من ذاكرة عامة شديدة الإيلام، وبها ما بها من كوميديا صنعتها أحداث حقيقية، تكاد الرموز المتجمدة أن تشوه معانيها النبيلة.

كأن طه ومعها المخرجة لينا أبيض، تفضّلان قراءة فرديّة لحدث يجري طمره بأدبيات عمومية، ليس بغرض البخس من قيمة ما هو عام، بل لإغناء وتصويب تهافته. ففي نهاية العرض، تختم رائدة حكايتها كلّها على تأكيد واحد وحقيقة بديهية وصريحة، تبقى راهنة كما كانت من قبل، أنّ والدها حيّ طالما هي حيّة وقادرة على تذكّره كما كان أباً وطريداً، وأنه لن يموت إلا إذا ماتت هي أيضاً.

بدأ العرض باعتراف مباغت وفوري، وانتهى بأغنية لصباح تغنّيها العمّة سهيلة. وما بين الاثنين هو ما بين الرّحم والحبّ، الصدمة والصدق. يبدو الاعتراف أقوى وسيلة للنقد، كما بدا أقرب طريقة للنفاذ إلى جوهر إنساني بلا أقنعة. "ألاقي زيّك فين يا علي" أغنية قصيرة كي لا تُعاد الحكاية ناقصة، ولئلا تتحول المطحنة إلى فردوس كاذب.

المساهمون