يظهر الكتاب الورقي باعتباره المنتج الأساسي الذي يقدّمه كل معرض كتاب، غير أن تحوّلات عميقة في عالم النشر قد جعلت منه بالتدريج عنصراً من مشهد أوسع. فضمن موجة سرت في القطاعات الاقتصادية المختلفة، جعلت من التخصّص معيار نجاح، برزت قطاعات فرعية في عالم الكتاب مثل التصميم والتسويق وصناعة الورق وتصميم المواقع والطباعة ووكلاء المؤلفين وأصحاب حقوق الترجمة، وأخذ هؤلاء أمكنتهم بشكل مستقلّ عن الناشرين.
قلّما نلاحظ هذا الواقع الذي يعيشه الكتاب بشكل واضح سوى في بعض المعارض العالمية، ومنها "معرض فرانكفورت للكتاب" الذي اختتمت دورته السنوية الأحد الماضي، إذ تضمَنُ هندسته أن نرى في نفس الوقت سوق الكتاب مقسّماً بين ثقافات، أو بين قطاعات، تتفاعل جميعها في مشهد عالمي واحد.
ضمن التقسيم الأول يمكن أن نلاحظ أن مساحة المعرض وقد سيطر على معظمها الناشرون الألمان في مقام أول، بحكم أن المعرض يقام على أرضهم ومعظم الجمهور من القرّاء الناطقين بالألمانية، يليهم الناشرون الأميركيون والإسبان، ثم تأتي بقية بلدان العالم، ومنها الثقافة العربية التي يبدو أن حضورها يتزايد من سنة إلى أخرى، سواء من خلال عدد من المؤسسات الرسمية التي تسجّل حضورها بانتظام، أو محاولات حضور ناشرين عرب - ولو دون أجنحة - باتوا على علم بأن "فرانكفورت" ليس فقط حلقة مناسباتية في سَنة النشر، بل هو شكل حضور أساسي في خارطة الثقافة العالمية وفهم تحوّلاتها.
مساحة المعرض يمكن تقسيمها أيضاً على أسس قطاعية، فمع دور النشر التي تقدّم كتبها، هُيّئت فضاءات عديدة لمؤسسات تلامس أنشطتُها من قريب أو بعيد عالم الكتاب. في هذا الفضاء تتصارع قوى كبرى من أجل مواقعها، فتحضر تلك الشركات العملاقة التي لا تترك شيئاً بعيداً عن محاولات ابتلاعه مثل "أمازون" التي تقترح صيغ نشر تتخطّى الكثير من الحلقات الكلاسيكية من نقطة المؤلف وصولاً إلى يد القارئ، أو "غوغل" ومحاولة المسح الضوئي لكل منشورات العالم.
"البكائيات" التي تتردد حول انحسار الكتاب الورقي قد توحي بأن واقع الطباعة في تراجع، لكن القاعة المخصّصة للطابعين لا تشير إلى شيء من ذلك، حيث تبدو هي الأخرى مثل خليّة نحل، قلما نمرّ في أروقتها ولا نجد اجتماعات تعقد فيها اتفاقيات طباعة، أو ورشات تفسير التقنيات الجديدة ومقترحات تطوير الصناعة أو جعلها منسجمة أكثر مع الرهانات البيئية.
يقع كل ذلك في الأرض التي اختُرعت فيها الطباعة الحديثة، غير أنه من الواضح أن الألمان قد فقدوا تسيير الدفة في هذه الصناعة، فالخدمات التي يقدّمها الطابعون الصينيون تبدو اليوم هي الأكثر استقطاباً للناشرين، حتى الألمان منهم، ونجد في مضمار السباق مؤسسات كورية وتشيكية وتركية تحاول أن تجد هي الأخرى لها موقعاً تحت الأضواء. تماماً كما يحدث في قاعات أخرى، تتضارب فيها المصالح والطموحات في أسواق وصراعات بعضها يتجاوز الثقافة إلى حسابات جيوسياسية. ألم يكن هذا التدافع محرّك تاريخ طويل من تطوير الكتاب؟