فرانسيس بيكون: الصرخة وليس الرعب

28 نوفمبر 2016
(بيكون)
+ الخط -
"يكتشف المرء في لوحات فرانسيس بيكون محاولة للقضاء على كل متفرج؛ و كنتيجة حتمية لذلك، كل استعراض (فرجة). لذلك، نجد للوحة صراع الثيران (1969) نسختين: في الأولى لا يزال الحقل الكبير يتضمن لوح نستطيع أن نلمح عبره جمهورًا يشبه حشدًا رومانيًا على مدرج؛ أما في الثانية، فيغلق اللوح هذا. ولا تكتفي  اللوحة بتشابك مصارع الثيران والثور، بل تحقق لكل منهما حقيقة فريدة من نوعها، وفي نفس الوقت يختفي الشريط البنفسجي الذي كان يربط المتفرجين بالحدث الاستعراضي".

- جيل دولوز،  من كتاب "فرانسيس بيكون: منطق الشعور"


بدأ فرانسيس بيكون من حيث انتهى سيزان، الذي اعتبر للوحة و اللون واقعًا مستقلًا بذاته لا يحتاج لمحاكاة الطبيعة، فكان اللون في خلفيات بيكون موحدًا وقويًا، له قيمة مستقلة بذاته، وشخوص لوحاته في تباين مع أرضية اللوحة؛ ألوانها تتمازج بين الترابية وألوان اللحم البشري، فتكون اللوحة سطح يتمثل بالعلاقة بين الشخوص والخلفيات هذه والحركة المستمرة بين هذين السطحين، كأن هذه الأجساد الملتوية والمشوهة تشغل حيزًا منفصلًا عن أرضيتها لتطفو على سطحه.

سيزان رسم "جسد" التفاحة، أما بيكون فكان تركيزه على الجسد البشري والقوى التي تحركه و الرغبات التي تجعله في اضطراب دائم. انشق بيكون عن التعبيرية والرمزية والتجريد، فالشخوص لديه تخرج عن كل السرديات التي قد تحمل معاني رمزية أو حكائية. فالأشكال الذائبة والملتوية التي نراها في لوحاته التي قد تبعث في المتلقي الرعب، تتعدى أطر التمثيل والتشخيص، لتنقل أحاسيسَ في حركة دائمة، متحررة من الجسد بمعناه المادي، وفي نفس الوقت هي العامل والمؤثر الأساسي في تشويه هذا الجسد، فهي ما يلوي و يشوه ويحرك و يهز الرأس ويبتر الأيدي ويلف الأقدام؛ الأحاسيس التي تجعلنا نشعر بالانزعاج إن جلسنا مطولًا على نفس الكرسي، أحاسيس تشوهنا و تترك أثرها على أجسادنا.

يقول بيكون: "أردت أن أشكل الصرخة، وليس الرعب". نجد في لوحاته ابتسامة بلا فم، رؤوسًا بلا وجوه، صرخة بلا رعب، أجسادًا بلا أعضاء، ما بعد الجسد وما بعد التمثيل.

في عالم تحكمه الصورة، والتزايد والتسارع في عمليات الإنتاج  في جميع تجلياتها، وانعزال الفرد عن منتوجاته وبعده عن التأثر والتفاعل المباشر مع "الواقع" السياسي والاجتماعي والاقتصادي، تصبح مقدرة الفرد على تغيير هذا الواقع شبه مستحيلة ويتحول الى مجرد "متفرج" خامل، يستحيل أن يعبر ويحلل هذا الواقع من دون أن يخضع لشروط التمثيل المهيمنة التي تتمثل في صورة الاقتصاد السائد.

يقول غي ديبور في كتابه "مجتمع الاستعراض" (1967): "في المجتمعات التي تسود فيها شروط الإنتاج الحديثة، تقدم الحياة نفسها بكاملها على أنها تراكم هائل من الاستعراضات. كل ما كان يعاش على نحو مباشر يتباعد متحولًا إلى تمثيل representation... الاستعراض هو كابوس المجتمع الحديث مكبلًا بالأغلال."

كانت الحركة المواقفية Situationism، التي أسسها ديبور، تقوم على إيجاد طرق لإحداث خلل واضطراب في منظومة التمثيل هذه، فابتكروا أساليب تستغل الصور السائدة لخلق اضطراب في سير حقل الاستعراض، اضطراب يشبه الوجوه المهتزة الملتوية لدى بيكون. لربما اتضح مع الزمن قصر وعجز راديكالية المواقفية في تغيير النظام السائد.

فمثلًا، أحد الأساليب التي اقترحوها لجعل تواصل الفرد مع واقعه أكثر مباشرة وخلق مواقف تستدعي "العمل" الثوري، هي "الانجراف" التي تتمثل في طريقة تجريبية لاكتشاف المدن والفضاء الحضري عبر المشي بدون تخطيط مسبق وترك الصدف والمواقف والأماكن تلعب دورها في التأثير على تصرفات الأشخاص وحالاتهم النفسية، فيصبح هذا الانجراف دراسة للنفسية الجغرافية للمكان. لكن، في واقع الأمر، لا يستطيع تطبيق هذه النظرية على من يقبعون في أماكن فيها حظر تجول أو فواصل عنصرية استعمارية.

بالعودة إلى عمل بيكون في النسخة الأولى منه، نجد مصارع ثيران وثورًا متلاحمان في صراع هو "الاستعراض" الذي ترتكز عليه اللوحة، ولأن بيكون لا يعمل على مجرد تمثيل سردية معينة؛ فإنّ القوى المتضاربة بين إغواء المصارع وغضب الثور تجعل جسدهما يتماهيان، لنرى ثورًا برأس بشرية، بلا وجه، رأس لا يحتاج لوجه أصلًا، والأرض المستديرة التي تحمل الشخوص هذه وما يربطهما من خطوط، تنقل لنا حركة الصراع الدائرية التي نكاد نسمع منها صوت قدم الثور وهي تخدش الأرض وتنثر الغبار.

هذه اللوحة لا تحكي قصة، بل تنقل لنا الشعور بالقوى والجهود المتواترة والحركات والانتقالات بين الأسطح. أهم ما في اللوحة الأولى، وكما يشير دولوز، وجود لوح ينقل لنا صورة متفرجين، هذا اللوح على حافة الدائرة متخذاً شكل محيطها، يبدو وكأنه انعكاس من مكان بعيد أو نافذة من عالم آخر تماماً، ولكن ما يربطه بالاستعراض هو ذلك الخط الذي يربط قدم الثور بطرف اللوحة، جاعلاً المتفرجين جزءًا لا يتجزأ من الحركة الدورانية لصراع الثيران. هنا نستطيع أن نقارب بين مجتمع الفرجة و الاستعراض، الذين - كما قال ديبور في كتابه - لا ينفصلان، فالاستعراض مرتبط بالمتفرج وهو شرط وجوده ويشكل العالم المتماسك لكليهما. 

هنا في اللوحة الثانية، نجد رغبة للقضاء على "مجتمع الاستعراض". يغلق بيكون اللوح باللون الأبيض، يغلق الستار على المتفرج، فيفقد صراع الثيران صفة "الاستعراض". يصبح لدينا شيء آخر لا أعرف ماذا نسميه، عالم جديد لا يخضع لقواعد التمثيل والفرجة، "جسد بلا أعضاء"، كامل بلا حاجة لأعضاء تشكله وتعطيه معنى.

في اللوحة الثانية عالم من نوع آخر، عالم ما بعد التمثيل. هنا سرَح المتفرج وانجرف واستطاع أن يغير "النظام" المسيطر. هنا انحل الصراع بين الثور والمصارع، فنجد لكل منهما وجودًا منفصلًا. جسد بلا أعضاء، ابتسامة بلا فم، وجه بلا رأس، ما بعد الجسد وما بعد التمثيل.