لا شيء يتناقض في المقر العام لحملة فرانسوا فيون الانتخابية مع ميل الرجل للمال وجنوحه نحو كل ما هو فخم. لهذا، فإن اختياره لمقره في الدائرة الخامسة عشر من باريس، يندرج في هذا الإطار، ويُظهر الفرق بينه (2500 متر مربع) وبين المقرّ المتواضع لحملة اليساري جان - لوك ميلانشون (أقلّ من 400 متر مربع).
ويتميز فيون بحذره الشديد من وسائل الإعلام، خصوصاً بعد ظهور متاعبه المتعددة مع القضاء، وهو ما تكشفه انتقاداته الشديدة والمتكررة لها، وتجعله يرفض السماح لقطاعات عريضة منها أن تلج إلى المقرّ المكوّن من طابقين اثنين إضافة إلى الطابق الأرضي. هناك، يتمركز صحافيان من القناة الإخبارية الفرنسية "بي. إف. إم. تيفي"، شهدا صدّاً من أنصار فيون، بدعوى أن "القناة تخصصت في انتقاد فيون وتنحاز للمرشح إيمانويل ماكرون"، ليراسلا قناتهما من أمام باب المقر.
ومع اقتراب الاستحقاق الانتخابي في مرحلته الأولى يوم الأحد، 23 أبريل/نيسان الحالي، واستقرار فيون، حسب معظم استطلاعات الرأي، بين المركزين الثالث والرابع، مع مرشح "فرنسا غير الخاضعة"، ميلانشون، تزداد الحملة شراسة، وتستعيد المواضيع الأولى للحملة بريقها. كما تزداد حركية الطاقم الصحافي في حملة فيون، التي توجّه رسائل وأشرطة فيون إلى الناخبين بصفة يومية، وآخرها شريط "إرادة من أجل فرنسا"، كما تنتشر أفلام فيون القصيرة بين أنصاره في "فيسبوك". هذا ويدعو فيون بشكل متكرر جمهوره لمشاهدات جماعية للقاءاته الصحافية وخطاباته في المهرجانات واللقاءات الشعبية والعمل على انتشارها.
وإذا كان فيون يراهن، مثلما فعل ميلانشون، على شبكات التواصل الاجتماعي واستخدام التقنيات الحديثة، إلا أنه أصبح يشدّد، في الأيام الأخيرة المتبقية، على الظهور بمظهر الشخص القادر على توحيد اليمين والوسط، للتغطية على صورة يمين منقسم ومتناحر، المنتشرة لدى الرأي العام. ولهذا السبب بدأت تعود الكثير من الشخصيات اليمينية، من أنصار الرئيس السابق نيكولا ساكوزي وعمدة بوردو آلان جوبيه، التي كانت غائبة، إلى الواجهة الإعلامية والجماهيرية. كما ظهر جوبيه مع فيون، أمس الأربعاء، بما يُمكن اعتباره مصالحة نهائية بين الطرفين.
وتشارك أيضاً معظم القيادات اليمينية في المهرجانات الانتخابية، ومنهم لوك شاتيل، وفرانسوا باروان، وهيرفي ماريتون، وفيرجيني كالميل، وإيريك فورث، وكزافييه برتراند، وفاليري بيكريس، وكريستيان جاكوب، وناتالي كوسيكسو موريزي، وجيرار لونغي، وهيرفي غايمارد، وجيروم شارتييه، وداميان أباد، وديدييه كونتان، وإيريك سيوتي، وكريستيان ايستروزي، ولوران فوكييز، شاركوا في اجتماعات جماهيرية للدفاع عن مرشحها وبرنامجه، أو في وسائل الإعلام.
ومثلما ابتدأت الحملة بالتركيز على مواضيع يراها اليمين واليمين المتطرف أساسية، كالهوية والأمة والثقافة والمهاجرين، تركزت حملة المرشح فيون في لقاءاته الأخيرة على موضوع الهوية وفرنسا والاندماج وغيرها، وهي محاولة لجذب بعض الناخبين الذين قد تستهويهم مارين لوبان، التي عادت، هي الأخرى، إلى قضية "الهوية الوطنية" وإلى ما تسميه "رهان الحضارة"، وأعلنت أنها مع وقف كثير من القوانين التي يستفيد منها الأجانب في فرنسا. وبدأت تتصرف، قبل أيام من الدورة الانتخابية الأولى، وكأنها قهرت فيون، فتقول "التصويت لصالحي أكثر نفعاً من التصويت لصالح فيون"، قبل أن تلخّص: "ماكرون من أنصار العولمة من دون عُقَد، بينما فيون من أنصارها، لكن بخجل. ولكني أفضّل أن أُواجه من لا عقدة لديه".
يدرك فيون أن كثيراً من الأصوات التي تنقصه موجودة في معسكر لوبان، لهذا ذكر يوم الإثنين أمام أنصاره: "أتيت لأتحدث إليكم عن هوية أمّتنا، أتيت لأتحدث عن فرنسا. فالهوية ليست نقاشاً بين الجامعيين، وحدهم، ولا المؤرخين وحدهم. إنها تمس مواطنينا في الصميم". واقتبس فيون من المؤرخ مارك بلوك (1886 ـ 1944): "يوجد محرّم غريب في بلدنا يرنّ مثل هزيمة غريبة، نعم، لم نعد نجرؤ، اليوم، على التلفظ بكلمات مثل هوية وفرنسا وأمّة ووطن وجذور وثقافة". وحتى يكسب قلوب ناخبين جدد، يردف: "من الطبيعي أن فرنسا، التي توجد في داخلي، اخترقها التاريخ والثقافة وأفعال ملحمية. وإنّ كل واحد حرّ في كتابة روايته الوطنية. فرنسا، التي في داخلي، جمهورية، ولكنّي أتعامل مع تاريخ فرنسا ككتلة، بعظمته وضعفه".
من جهتها، فإن الجزائرية الأصل، ماليكا سورال، مؤلفة كتاب "التفكك الفرنسي"، والعضوة السابقة في "المجلس الأعلى للإدماج"، والمعروفة بمواقفها الصارمة حول قضايا الهجرة والعلمانية، ترى أن "فيون وحده يجسّد الحق في الاستمرارية التاريخية للشعب الفرنسي". وترى بأن "هذه الانتخابات هي الفرصة الأخيرة لفرنسا. وأن فرانسوا فيون يمتلك رؤية ثاقبة وحكيمة عن الرهانات الخارجية كما الداخلية".
وتحاول سورال الدفاع عن مرشحها، الذي يعاني صعوباتٍ في مواجهة برنامج ماكرون، باعتباره يُشكّل تهديداً كبيراً، وترى بأن "الثقافة غائبة في برنامج ماكرون". كما تصفه بأنه "من أنصار خطّ العولمة وتعددية الثقافات". وهو ما نفاه ماكرون في لقاء طويل مع موقع "كوزور" الإخباري، مشدّداً في تصويبات وتعديلات على حملته على أن "فرنسا لم تكن، ولكن تكون، أبداً، أُمّة متعددة الثقافات". وذلك بعد أن كان يقول بأنه "لا توجد ثقافة فرنسية، بل توجد ثقافة في فرنسا، وهي متنوّعة ومتعددة".
مع العلم أن فيون، الذي تتبادل سورال يومياً العديد من الرسائل القصيرة معه، لم يكن أول محطة في حياتها السياسية، إذ التحقت، أثناء انتفاضة الضواحي الفرنسية، سنة 2005، برئيس الوزراء دومينيك دوفيلبان، إلا أنها سرعان ما خاب أملها فيه، متهمة إياه بالخضوع للأقليات والجماعات. وفي كتاب لها، صادر عام 2007، أي بعد سنتين من انتفاضة الضواحي، وجّهت سورال الإدانة لأي شعور بالذنب قد يلاحق الفرنسيين بسبب ماضيهم الكولونيالي. وبسبب أفكارها عيّنها ساركوزي عضوة في "المجلس الأعلى للإدماج".
أمّا كتابها الأخير عن "التفكك الفرنسي"، فحمل إهداءً "إلى أجدادي الغاليين"، وفيه تشريح لما ترى فيه "إفلاساً للنُخب" فيما يتعلق برهانات الإدماج. في الوقت الذي ترى فيه الإدماج بمفهوم لا يقلّ عن الذوبان في الهوية الفرنسية، لأن في المصطلح "بعداً سحرياً، كما هو موجود في الحبّ".
ولا تخفي سورال مواقفها الصارمة، ولا ميولها العاطفية نحو اليمين الفرنسي، وأحياناً نحو اليمين المتطرف، كما يمثله السياسي فيليب دوفيليي، مؤسس حزب "الحركة من أجل فرنسا"، وصاحب كتاب "هل ستُقرَع الأجراس غداً؟"، في إشارة إلى موضوعه عن الخطر الداهم المتمثل في أسلمة فرنسا، والذي لا تخفي صداقتها معه وإعجابها به، فتقول عنه: "لقد كان على حق، في وقت مبكر، وهو يَحْمل فرنسا في قلبه، ونفس الأشياء تجعل قلبينا يخفقان".
ومن بين المؤيدين لفيون، من أصول عربية وإسلامية، فيصل مينيا، رئيس مجموعة "الجمهوريون" في المجلس البلدي لمدينة أوبيرفيليي، ضاحية باريس، والذي يروق له أن يمثل حزب "الجمهوريون" في وسائل الإعلام الفرنسية، تحديداً تلك الناطقة باللغة العربية. فلم يُخف مينيا، كونه يُشكّل جزءاً، من أسماء مهمة ووازنة، من الذين يراهن عليهم فرانسوا فيون لالتقاط أصوات الناخبين المسلمين. كما يبدي تفاؤله بانتصار مرشحه، رغم أن الكثيرين من أعضاء حزبه، يرون معركة فيون خاسرة، وعلى رأسهم ساركوزي، ويحاولون العمل على تخفيف الخسارة في الانتخابات التشريعية حتى تبقى لهم "قوة إزعاج" للرئيس المقبل، وهو إيمانويل ماكرون، بحسب توقعاتهم. ويضيف مينيا أنه "من المؤكد، هذه المرة، أنه لن تصوّت أغلبية مسلمي فرنسا ضد مرشح اليمين. ففيون مختلف عن ساركوزي، كما أن خمس سنوات من حكم اليسار أظهرت حقيقته، فجعلت كثيرين يُصابون بالخيبة من الرئيس السابق".
أمام بوابة المقرّ العام لحملة فيون، مرّ القيادي كريستيان جاكوب، رئيس الكتلة البرلمانية عن حزب "الجمهوريون"، وهو من بين أنشط طاقم حملة فيون. كانت تظهر عليه ملامح التعب والإجهاد. وردّ على سؤال "العربي الجديد"، عما إذا كان لا يزال يحتفظ بالأمل في نجاح فيون، فقال وهو يلج بسرعة سيارة كانت تنتظره: "نعم. سينتصر فيون. والأمل هو الذي يُحرّكني وهو الذي سيقودني يوم الأربعاء إلى إقليم دوبس". وحاول بعض المتواجدين التدخل. قدّم أحدهم نفسه بأنه من أنصار فيون، وقال في لهجة حادة: "إذا خسر فيون، فسيكون الأمر بسبب الصحافة، وليس بسبب برنامج المرشح".
جان ميشال، الصحافي في قسم الميديا والمسؤول عن توجيه رسائل فرانسوا فيون إلى مئات الآلاف عن طريق البريد الإلكتروني و"فيسبوك" ويوتيوب، "يتقاسم مع فيون الأمل في الفوز"، حسبما يقول لـ"العربي الجديد". ويعترف: "نلاحظ فعلاً، ومنذ أسبوع، ازدياد أعداد من يتابعوننا على مختلف وسائل التواصل الجماهيري". ويردف أنه "لا بد أن هؤلاء اكتشفوا أن غياب مرشحٍ لليمين في الدورة الثانية سيكون كارثة سياسية، بامتياز، خصوصاً أن اليسار حاضر، هذه المرة، من خلال إيمانويل ماكرون". وهو تقريباً ما يقوله فيون قبل يوم الأحد، فمرشح اليمين والوسط يرى نفسه حاضراً في الدورة الثانية في مواجهة ماكرون، ويقول: "إذا كنت قد اجتزتُ كل هذه الامتحانات، فليس من أجل أن أتراجع".
ولأنّ كل شيء قد يُساعده في التقاط الأصوات أنّى وُجدت، فهو استغل، أيضاً، أعياد الفصح المجيدة، لمغازلة أصوات المسيحيين، خصوصاً بعد المآسي التي تعرّض لها أقباط مصر. ووعد فيون بأنه في حال فوزه في الرئاسيات سينخرط أكثر إلى جانب مسيحيي الشرق "ليس فقط، لأسباب طائفية، بل أيضاً لأسباب جيو- سياسية"، مضيفاً بأن "رفض التعددية في الشرق الأوسط سيؤدي إلى تعدد الدول الطائفية، من سنية وشيعية وغيرهما. وهذه الوضعية ستقود، مستقبلاً، إلى تدني التسامح عندنا في أوروبا".
أما ناتالي غوليت النائبة في مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي المستقل، الوسطي، المتحالف، على مضض، مع فرانسوا فيون، فلا تخفي قلقها على نتائج الأحد، لكنها أملت "في إحداث اختراق كبير، في الانتخابات التشريعية، حتى يكون اليمين قوياً، في كل الاحتمالات"، وحتى يكون لحزبها الصغير، "فريق برلماني مستقل". أي ضمان وجود "حساسية الوسط" التي يوشك ماكرون أن يبتلعها.