يُعرَّفُ النقد عموماً بأنه لغةٌ واصفة أو بعبارة تقنية أكثر بأنه ميتا-لغة؛ بمعنى أنه لغةٌ تتَّخذ لغةً أخرى موضوعاً لها، فيتأكد أنه كلام على كلام، ليكون شبيهاً بالترجمة التي لن يختلف ممارسوها ومنظِّروها وحتى قُراؤها في أنها كلام على كلام، لأن أساسها نص أوّلُ صاغتْ هي حولَه نصاً آخرَ هو صورةٌ لغويّةٌ أخرى له أو نسخة.
وكون الترجمة كلاماً، هي الأخرى، فهذا يعني وقوعَها ضِمن البيان الساحر الذي تعوَّذ منه أبو عثمان الجاحظ مرَّتيْن؛ الأولى في مؤلّفه "البيان والتبيين" بقوله "اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول"، والثانية في "كتاب الحيوان" حين قال: "نعوذ باللّه من فِتنة القول وخَطَله".
لكنْ كيف يُمكن للترجمة أن تكون فتنة، بينما هدفها الأصلي هو الوساطة تحقيقاً للفهم والإفهام؟
معلومٌ أنّ الترجمة فعل إبداعي يُعيد خلق النص الأصل عبْرَ مُضاعفَةِ طاقتِه الشعورية والأسلوبية والتصويرية والتأويلية، والأكيدُ أنَّها باجتهادِها هذا تُعبّر عن افتتانها بالأصل، أيْ ولَهِها به، والوله معنى من معاني كلمة "فتنة" التي يُخبرنا المعجمُ أنّ لها معانِيَ مختلفة ومتباينة، وأرى أنها يُمكن أن تَصدُق على الترجمة حسب التوجيه والتأويل الذي تَخْضع له الكلمة.
لكنْ، لنتّفِقْ في البدء على أنَّ اللذةَ تحرِّك فعلَ القراءة، وأنَّ القارئ يستعذب قراءة النص في أصله لأنه يضمنُ له اللذة، وحين تتعذَّر عليه القراءةُ في لغة أجنبية فإنه يُضطر كثيراً إلى قراءة أعمال إبداعية عالميّةٍ مترجَمَةً إلى لغته، وأن المترجم هو الآخر يرومُ إحداث المتعة ذاتِها التي كان المؤلِّف يتغيا إحداثَها في قارئه في اللغة الأصل للعمل، فتكون الفتنة هنا افتتاناً.
ويُخبِرنا المعجمُ بأنّ الوَلَدَ فتنةٌ شأنه في ذلك شأن المال، وتُعلِّمُنا الترجمة أنّ المترجِمَ يُقدّمُ النّصَّ المترْجَم وهو يمحضه الحبَّ، أي وهو مفتون به حتى لكأنه وَلَدٌ مِنْ صُلبِه، ويسعى إلى أنْ يُنْسب إليه، ويتباهى بتَبَنِّيه إيّاه، عِلْماً بأنه في أصله ابْنٌ لآخَرَ.
لكنّ المشتغلين بالترجمة، تنظيراً وممارسة، يعرفون أن الطموح الأكبر لكل ترجمة هو إحراقُ الأصل، بأن تَفْتِنَ القارئ عنْه، أي أن تَصْرفه عنه، وأنْ تُلغيَه وتُفنِيَه، وألّا تُحيل إلا على ذاتها فقط.
أَلم يكن فعل ابن المقفع بكتاب "كليلة ودمنة" إحراقاً للأصل الهندي-الفارسي، وتطبيقاً حرفيًّاً لمعنى من معاني "فتن" العديدة؟ أين أصل "كليلة ودمنة" في الهند وفي بلاد فارس؟ وإلامَ انتهى؟ وإلى مَنْ يُنسَبُ الكتاب الآن؟
وما مِنْ شكّ في أن الترجمة شبيهةٌ بالنار أيضاً مِنْ حيثُ الفرْز والتمييز، فهي تميِّز جيّد النصوص من رديئها، كما تفتن النارُ الفضةَ والذَّهب بإذابتهما لتميز الرديء من الجيِّدِ فيهما.
يبدو أنّ الجاحظَ، عندما استحضر الشعر العربي وقيمته في سياق حديثه عن الترجمة، كان على وعي بأن الترجمة نارٌ مجازيَّةٌ لامتحانِ الأصيلِ الشعريِّ في الشعر العربي، عند إقراره بأن الشعر العربيَّ [كُلَّه] "لا يُستطاعُ أن يُترجم، ولا يجوز عليه النَّقْلُ؛ ومتى حُوِّلَ تقطَّعَ نظمُه، وبَطَلَ وَزْنُه، وذَهَبَ حُسْنُه، وسَقَطَ مَوْضِعُ التَّعَجُّبِ، لا كالكَلام المنْثُور".
يتأكّد أن الجاحظ كان على صواب، فقد أخفقتْ قصائدُ شعرية كثيرةٌ في السّفَر إلى الضفاف الأخرى مِنها معلَّقة امرئ القيس، في حين نجحتْ معلَّقة طرفة في أنْ تحظى بإعجاب القُرّاء وتقديرهم في اللغات التي تُرجِمتْ إليها.
ولرُبّما كان عدم قابلية ترجمةِ المكوِّنات التي أشار إليها الجاحظ السَّببَ في ضعف قصيدة الأوَّل مُترجَمةً، وفي بُروزِ قوَّةِ وعُمق التجربة الوجودية لقصيدة طرفة، لكن المؤكَّدَ أيضاً هو أن نار الترجمة كانتِ الفاتنةَ المائزة.