فتنة التدخل وصراع النفوذ بين روسيا والغرب

28 نوفمبر 2015
+ الخط -
تحوّلت الحرب على داعش إلى فتنة بين الحلفاء الغربيين، بين معارض ومتردد ومساند للتدخل الجوي في سورية، وإن كانت العمليات الإرهابية في باريس جعلت بعض الدول تغيّر تماماً من موقفها، وفي مقدمتها فرنسا التي انتقلت، وفي ظرف زمني قياسي، من موقف رفض أيّ مفاضلة بين داعش ونظام الأسد إلى موقفٍ يقول إن الأولى هي العدو الأساسي لفرنسا. وهذا دلالة على تقهقر نظام الأسد في أولويات الشواغل الأمنية الفرنسية، ومستلزماتها الأخلاقية. بيد أن تحول داعش إلى فتنةٍ، ليس من حيث تحول مواقف الدول حيال هذا التنظيم، وإنما من حيث مخاطر المواجهة بين الحلفاء والشركاء، بما فيهم روسيا، بالنظر إلى التدخل المشتّت غير المنسّق في المجال الجوي، وللدفاع عن حلفاء مختلفين.
تعي الولايات المتحدة مخاطر هذه الفتنة عسكرياً، نظراً إلى الصدام المحتمل بين مقاتلات الدول المتدخلة، لا سيما بين الغربية والروسية. لذا، سارع الأميركيون إلى الاتصال بالروس، للتوصل إلى برتوكول تنسيق عسكري بين الطرفين، يحول دون المواجهة، أو الصدام غير المقصود بين مقاتلاتهم المتدخلة في سورية. وهذا إقرار من أول وثاني قوة عسكريتين في العالم بأن المجال الجوي السوري تحول إلى أخطر بؤرة عسكرية في العالم، بالنظر إلى مخاطر المواجهة غير المتعمّدة، وإطلاق نيران صديقة. وثبتت صحة المخاوف الأميركية مع إسقاط مقاتلات تركية مقاتلة روسية، وهي حادثة خطيرة، والأولى من نوعها في المجال الجوي السوري بين روسيا ودولة عضو في الحلف الأطلسي، ما يسبب متاعب للحلف ولأميركا على حد السواء، لأن القرار الاستراتيجي الغربي يعود، في نهاية الأمر، إلى الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من مخاطر هذه المواجهة، فلم تطالب الولايات المتحدة بائتلاف دولي واحد ووحيد، بمعنى انضمام روسيا إلى التحالف الغربي، لأن أميركا تعلم أن أهداف الأطراف المتدخلة مختلفة، على الرغم من وجود أرضية مشتركة، وهي مكافحة الإرهاب. وبما أن كل طرفٍ يتحاشى تعريف الإرهاب، حتى يتحرك وفق مصالحه وتطوراتها، فإن هذه الأرضية المشتركة لا تكفي لإيجاد التوافق اللازم للعمل ضمن ائتلاف دولي واحد، فحتى فرنسا لم تلتحق بالائتلاف الجوي الغربي إلا أخيراً. وبعد التفجيرات في باريس، دعت فرنسا، وبإصرار، إلى ضرورة تشكيل ائتلاف دولي واحد. إنه تغيّر أساسي في الموقف الفرنسي وتقرّب من روسيا.
قد يكون حادث إسقاط المقاتلة الروسية عقبة أمام أي تقدم نحو ائتلاف من هذا النوع، كما قد
يكون فرصةً لتقارب أمني بين روسيا والقوى الغربية، من دون أن يعني ذلك تغيّراً في الموقف الروسي، فقد ترى فرنسا في الحادثة دلالة على ضرورة التعاون، لتفادي تكرارها مستقبلاً. لكن، نظراً إلى التنافر الاستراتيجي الروسي - الغربي، لا سيما بين روسيا وفرنسا، بسبب مواقف الأخيرة (منها إلغاء صفقة بيع الفرقاطتين الفرنسيتين لروسيا). وعليه، فهذا التنافر الاستراتيجي، واختلاف المصالح، بل تعارضها، سيحولان دون تشكيل ائتلاف دولي واحد. وقد يكون الحل الوسط، في هذه الحالة، البحث عن تنسيق أمني في سماء سورية، لتجنب حوادث مماثلة، بمعنى توسيع اتفاق التنسيق العسكري الأميركي - الروسي إلى الدول، لا سيما فرنسا وتركيا. تنسيق عسكري في صالح روسيا أيضاً، لكن المشكلة في التفاصيل.
وهناك مشهد آخر، يمكن تصوّره، أيضاً، وهو توافق مصلحي بين فرنسا وروسيا، ولو ظرفياً على حساب تركيا. فالدولتان تنتقدان سياسة تركيا حيال سورية، وتتهمانها بالتواطؤ مع بعض الجماعات، وتستفيد من الحرب في البلاد، سياسياً واقتصادياً، وحتى في المقايضة في علاقاتها مع أوروبا. إنه مشهد اقتناص الفرصة بالنسبة لروسيا وفرنسا، لمعاقبة تركيا من منظورين مختلفين. لكن، يصبان، في نهاية المطاف، في التضييق على تركيا. فقد يصر البلدان على ضرورة غلق الحدود التركية مع سورية، لوقف إي إمدادات للمعارضة السورية (بالنسبة لروسيا)، ووقف وصول جحافل المقاتلين الأوروبيين إلى سورية، ومغادرتها نحو بلدانهم (بالنسبة لفرنسا)، ولوقف توظيف تركيا الأزمة السورية إقليمياً (مسألة الأكراد) والاستفادة منها اقتصادياً (مسألة استفادتها من تهريب النفط). لكن هذا المشهد صعب الترجيح في الراهن، لسببين على الأقل. أولاً، لأن البلدين لا يملكان أوراق الضغط الكافية لإجبار تركيا على غلق حدودها مع سورية، فالقرار يجب أن يكون محل إجماع غربي عموماً. ثانياً، الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمته ألمانيا، اتفق مع تركيا على "مناولة" أمنية معها للتكفل بالمهاجرين السوريين، للحيلولة دون وصولهم إلى أراضي الاتحاد الأوروبي. وهي ورقة ضغط كبيرة جداً في يد تركيا، قد تستخدمها ضد الاتحاد الأوروبي، لإجباره على كبح جماح التوجه الفرنسي الجديد - القديم.
هكذا ذهبت مختلف القوى إلى العراق وسورية، لمحاربة الإرهاب، وتحديداً داعش، وعيون بعضها على المعارضة، وبعضها الآخر على النظام، وإذا بداعش يتحول إلى فتنة بينها، بل وسبب لمواجهة مسلحة، ولو محدودة للغاية (إسقاط مقاتلات تركية مقاتلة روسية). في نهاية المطاف، ذهبت القوى الغربية إلى سورية، لكبح جماح روسيا واحتواء نفوذها، وإذا بها تفتح لها المجال واسعاً لبسط نفوذها، لتصبح فاعلاً أساسياً في التفاعلات الراهنة في المنطقة.