فتحة في السقف

17 نوفمبر 2015
+ الخط -
حتى الآن، لا يعرف صاحبنا الفقير لماذا اقتاده رجال المخابرات من بيته، في ذلك الصباح الممطر، وألقوا به في زنزانةٍ، ذات سقف واطئ للغاية، تمهيداً لمحاكمته بتهمة "تهديد الأمن الوطني"، وهي تهمة كفيلة باقتياده إلى حبل المشنقة، على أقل تقدير.
على الجانب الآخر، وقبل أشهر من البطش بصاحبنا، كان ديوان السيد الرئيس مشغولاً بإعداد قائمة بأسماء مجموعة من رجالات المعارضة، الذين دعوا إلى تنظيم مظاهرةٍ، تطالب بتحطيم "سقف" الحريات في البلاد، تمهيداً لإرسالها إلى دائرة المخابرات، كي تقوم "باللازم".
يقول المقربون من فخامته إن الرئيس، ومنذ ذلك اليوم، أصيب بعقدة "السقف"، إلى الحد الذي أمر فيه بخفض ارتفاع سقوف البناء إلى أكثر من النصف، خصوصاً في الدوائر والمؤسسات الحكومية، حتى بات المراجعون يضطرون إلى ثني قاماتهم إلى حد الركوع، لدى إنجاز أي معاملة، ثم راح يفكّر فخامته بخفض "السقف" أكثر، وصولاً إلى مرحلة السجود. كما أن الزعيم أصدر "فرماناً" غريباً آخر، بمصادرة كل السيارات ذات "الفتحة في السقف"، ومنع استيرادها ألبتة، لأنها تعني بالنسبة له خرقاً لـ"السقف".
أيضاً، يقول المقربون إن فخامته، مساهمة منه في إعادة "سقف الأوزون" إلى طبيعته، شارك في "قمة الأرض"، وهناك ألقى خطاباً عن ضرورة رتق هذا "السقف"، حفاظاً على حياة البشرية. وقال إنه، من جهته، اتخذ عدة قرارات مصيرية في بلده، تمنع بناء أي نوع من المصانع، كما سيمنع استيراد السيارات، إن لزم الأمر، حفاظاً على "سقف" الأوزون، على قاعدة "قطع الشر من جذوره"، ولا بأس بالعودة بمواطنيه إلى عصر الدواب، ما دام في ذلك مصلحة للبشرية. فما كان من زعماء العالم، غير أن صفقوا طويلاً لهذا الرئيس الذي أثبت، بالملموس، حرصاً فوق العادة على سلامة الكوكب.
غير أن المقربين كانوا يدركون أن الرئيس إنما كان يصدر، في خطابه، من عقدة "السقف"، التي استحوذت عليه، تماماً، إلى الحد الذي بات يرى فيه أي ثقبٍ في سقف السماء، تهديداً أمنيًا لسلطته، على الرغم من أنه كان واثقاً أن رعيته لم تعد قادرة على النظر إلى السماء، أصلاً، فكيف بإحداث ثقبٍ فيها؟
أما صاحبنا القابع في زنزانته الواطئة، فراح يستعيد شريط ذكرياته، طوال الأيام التي سبقت اعتقاله، علّه يقع على السبب الذي أودى به إلى هذا الوضع، خصوصاً أنه من النوع الذي لم يفكّر يوماً بدخول عالم السياسة، بل كان يفرّ من الأحزاب فراره من الغيلان، ويمشي لصق الحيطان، طلباً للستر من غضب الحكومة وأجهزتها، ثم تساءل: أيكون السبب ما فعله، أمس، حين عاد إلى البيت مجهداً، بعد يوم عمل طويل، وحين حاول أن يغتسل، وجد المياه مقطوعة كعادتها منذ أشهر؟
غير أنه سرعان ما طرد هذا الخاطر من باله، لأنه لم يجرّب يوماً أن يراجع أي دائرة حكومية، للاحتجاج على الانقطاع المتواصل للمياه عنه، على الرغم من أنه ملتزم تماماً بدفع فواتير المياه التي كانت ترده بكامل بنودها "من دون انقطاع"، فيحسد الحكومة على هذا الالتزام الصارم الذي لا "يخرّ منه الماء"، على حد تعبير جارته خميسة.
صاحبنا يتذكّر، فقط، أنه، وبدافع من غيرته الوطنية، آثر أن يستغل المطر للتغلب على مشكلة انقطاع المياه، فيغتسل به مباشرة، من دون الحاجة لانتظار مياه "غودو" في الصنابير، وقد كان ينتظر منحه وساماً لقاء حقنه أموال الحكومة، وتوفير تكلفة إيصال المياه إلى بيته، فاتجه مباشرة إلى غرفة في بيته، كان يدلف المطر من سقفها المثقوب ليغتسل به.
وكان من سوء طالع صاحبنا أن الزعيم كان يقوم بجولة على متن مروحيته، فوق المدينة ذلك المساء، حين صدمه، من بعيد، مشهد "فتحة في السقف".


EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.