فؤاد سلطاني: الأسرى يدقون الخزّان

16 ابريل 2017
سلطاني: الشارع الفلسطيني ينتظر الموقف من الحركة الأسيرة(العربي الجديد)
+ الخط -
على مدار ثلاثة عقود، عمل المحامي والناشط الفلسطيني، فؤاد سلطاني مع الحركة الأسيرة في معتقلات وسجون الاحتلال، منذ أنهى تخصصه في مكتب المحامية فيليتسيا لانجر في أواسط الثمانينيات، في أوج العمل الفدائي، حيث كانت القضايا تطرح وتدار في المحاكم العسكرية الإسرائيلية المنتشرة في مختلف أنحاء الضفة الغربية، من طولكرم وجنين ونابلس ورام الله وبيت إيل. لكن المحامي الذي عمل أيضاً في جمعية أصدقاء الأسير، (مع الأسير المحرر الراحل عبد الرحيم عراقي) والتقى أسرى من كل الفصائل، تحول فجأة في أحد أيام أغسطس من عام 2009 إلى والد أسير، عندما اعتقل ولده، راوي، ووجهت له تهم تسريب ونقل معلومات لحزب الله، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات، وخرج في نهاية المطاف في فبراير 2014.

من مسافة ثلاثة عقود، وبعد تجربة والد أسير، يتحدث فؤاد سلطاني عن الحركة الأسيرة عشية الإضراب المقرر أن يبدأ بمناسبة يوم الأسير، ليتحدث بصراحة كبيرة، ربما أكثر مما هو متوقع ويكشف عمق تأثير الانقسام على تراجع مكانة الأسرى والحركة الفلسطينية وتحويلها إلى ملفات فردية، أو ملفات فصائلية ينحصر همّها في تحصيل حقوق أساسية يقرها لها القانون الدولي، ومكاسب يومية وحياتية تساعد على مزيد من الصمود، وهو يرى في الإضراب الذي أعلن عنه في السجون، فرصة كبيرة لأن يصبح نقطة تحول مفصلي، ليس في مكانة الأسرى الفلسطينيين فحسب، وإنما في تحديد مسار القضية الفلسطينية كلها، في حال نجاح هذا الإضراب. وفي ما يأتي نص الحوار:

* لنبدأ من الداخل: مرت الحركة الأسيرة في الداخل بتحولات كبيرة تتضح بمجرد النظر إليها وإلى أفرادها، من أشخاص "كادوا يورطوننا مع الدولة"، إلى رأس حربة في الضمير الفلسطيني، أنت شاهد على هذه التحولات، وعلى النظرة للحركة الأسيرة في الداخل، كيف ترى هذه القضية؟
- في السابق، في سنوات الثمانينيات، لم يكن للحركة الأسيرة هذا الزخم من التفاعل مع قضاياها، كان الناس في الداخل يخافون ويهابون ويبتعدون عن التفاعل مع أي قضية لها خلفية أو بعد "أمني" كان هذا المعيار في تصنيف الأمور بحد ذاته كافياً لبثّ الخوف في قلوب الناس، وكانت القضية تظل محصورة في عائلة الأسير وحدها، وربما أهل بيته في الدائرة الأولى، وقد ظل هذا الوضع سائداً لسنوات طويلة، وفقط بعد مرور سنوات طويلة وحتى أوائل الثمانينيات، وربما بعد تفاعلات يوم الأرض، بدأ التغيير في النظرة إلى ملف الأسرى. وشيئاً فشيئاً صار المجتمع الفلسطيني ينظر إليهم كأشخاص دفعوا ثمناً باهظاً لنشاطهم الوطني، وبدأنا نلمس إقبالاً، أو لنقل ازدياداً في مشاركة الناس العاديين (من ليست لهم علاقة قرابة بالأسرى) في نشاطات وطنية لرفع وطرح موضوع الأسرى، وإحياء يوم الأسير الفلسطيني، رغم ممارسات السلطة ومحاولاتها قمع أي مظاهر أو نشاطات للتضامن معهم، وصولا إلى مرحلة بتنا فيها، في العقدين الأخيرين، ننظم الاحتفالات العامة بتحرير الأسرى واستقبالهم وزيارتهم للتهنئة. وهو أمر لم يكن قائماً في الماضي. وقد يكون ذلك من تأثيرات الانتفاضة الفلسطينية الأولى، عام 1987، والتفاعل الوطني في الداخل مع الانتفاضة والمظاهرات التضامنية التي انفجرت في كل مكان في الجليل والمثلث والنقب، مع الانتفاضة ومع حرية الشعب الفلسطيني. ولكن أيضا هنا لا بد من الإشارة لدور التجمع الوطني الديمقراطي، والنائب عزمي بشارة، بفعل النظرة الفلسطينية الخاصة والمميزة للتجمع، واعتبار الأسرى جزءاً من كل فلسطيني، وبدء إحياء المناسبات الوطنية ويوم الأسير بتحدٍّ وعلانية، مع سلسلة زيارات الدكتور بشارة للأسرى، والاستماع لأوضاعهم، وربما كانت إحدى الرسائل المهمة في هذا السياق مثلا انتخاب الأسير وليد دقة، عضواً في اللجنة المركزية للحزب، فلكل هذا كانت دلالات ومؤشرات إلى رفع مكانة الأسرى وتحويلهم من ملف "أمني" إلى فلسطيني وطني، وإعطائهم الموقع الصحيح لهم، كمن ضحوا وليسوا من سعوا "لتوريطنا" مع الدولة، خاصة أن أحزاب سابقة كانت تصدر باستمرار إدانات لأسرى من الداخل، وطرح قضاياهم حتى من على منبر الكنيست. وأذكر مثلا مشاركتي مع السيدة سناء دقة، زوجة الأسير وليد دقة في جلسة خاصة بادر إليها الدكتور عزمي بشارة، في لجنة الداخلية، تمكنّا خلالها من طرح قضايا أسرى الداخل للمرة الأولى.

* لكن الانتفاضة أعطت أيضاً زخماً كبيراً، مع اعتقال الآلاف من قبل الاحتلال، ووزناً مؤثراً للحركة الأسيرة في السياق الفلسطيني العام، وليس داخل المعتقلات فقط؟
- في تلك الفترة، وحتى بعد وقف الانتفاضة وتوقيع اتفاقية المبادئ في أوسلو، كان عود الحركة الأسيرة قوياً، وتأثيرها أكبر بكثير مما هو عليه اليوم. وكان الشارع الفلسطيني ينتظر الموقف من الحركة الأسيرة، وينتظر سماع كلمتها في كل القضايا المطروحة، لكن آفة الانقسامات، التي وصلت إليها والتناحر الفصائلي انعكس على الحركة الأسيرة وأنزل بها ضربة قوية. فقد أضعف هذا الانقسام، موقف الحركة الأسيرة أمام سلطات الاحتلال، ما أدى إلى تمكن الاحتلال من الاستفراد بالأسرى وإنجازاتهم، واستغلال الانقسام للانقضاض على هذه المنجزات، فباتوا لقمة سائغة، وهم اليوم، في أكثر حالاتهم ضعفاً، خاصة مع ضعف موقف السلطة الفلسطينية، فهم اليوم يشعرون بأنهم تركوا وحدهم، حتى لدرجة شعور بوجود قطيعة بينهم وبين الجمهور الفلسطيني العام، وهذا أسوأ شعور يمكن أن يراود الأسرى ويضعف معنوياتهم، الشعور بلا مبالاة من خارج السجن بما يحدث داخله.

* لكنهم تُركوا وحدهم عملياً منذ اتفاق أوسلو، كما تقول، أليس كذلك؟
- ينبغي التوضيح هنا، أن الحركة الأسيرة ككل، كانت تتوقع أن ينتهي ملف الأسرى، وأن يتحرر كل أسير في المعتقلات مع إبرام اتفاق أوسلو، وكان المفروض، أن يشمل الاتفاق المبدئي تحريراً لكافة أبناء الحركة الأسيرة، باعتبارهم، كانوا جزءاً من الصراع وأوجهه، فهم لم ينفذوا عملياتهم بدون سبب، بل كانوا إما مجندين في الفصائل، وبالتالي كانت عملياتهم جزءاً من الكفاح المسلح، وكان ينبغي التعامل معهم على هذا الأساس، بمن فيهم أسرى الداخل، لكن اتفاق أوسلو أبقى عدداً كبيراً منهم داخل السجون، ولم يفرج عنهم، فشكّل ذلك أول ضربة معنوية لهم. وهو الحال السائد اليوم، خاصة أنه من بين الأسرى، نواب منتخبون في المجلس التشريعي، وبالتالي فإن الأسرى يرون عجز السلطة الفلسطينية عن تحرير أسراها، ولا سيما بعد فشلها في ضمان تطبيق الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو، في إبريل/نيسان 2014، بعد تراجع حكومة نتنياهو عن تطبيق هذا الاستحقاق. المفاوض الفلسطيني استمر في المفاوضات العبثية على معبر هنا ومعبر هناك، في الوقت الذي قبع في سجون الاحتلال آلاف الأسرى، منهم من وقع في الأسر قبل أوسلو، ومنهم من اعتقل بعد الانتفاضة الثانية، وبين جولات المفاوضات، لكن دون أن يكون تحرير الأسرى شرطاً أساساً لأي استئناف للمفاوضات، هذا الشرط لم يذكر ولم يرد على لسان المفاوض الفلسطيني فيما أسراه يملؤون المعتقلات، وهو تكريس للفشل الأول الذي تمخض عنه اتفاق أوسلو.

* لكن الحركة الأسيرة اليوم أمام إعلان إضراب مفتوح كيف تنظر إلى هذا الإضراب؟
- هذا الإضراب يحمل برأيي رسالتين: الأولى هي سياسية داخلية، إذ يقوم الأسرى في هذا الإضراب بدق الخزان ليذكّرونا جميعاً ويقولون: نحن هنا أحياء، داخل زنازين معتمة منذ عشرات السنين، في الوقت الذي يتم فيه استجداء إسرائيل للعودة للمفاوضات، ليس على أساس تحرير الأسرى (لا أحد يذكرهم في هذا السياق)، نحن هنا ولا يمكن الاستمرار بحالة تركنا داخل السجون، ولا نعرف متى سيتم تحريرنا.

الرسالة الثانية هي المطالب اليومية الحياتية، هنا تدخل مثلا قضية النائب باسل غطاس، فأحد المطالب الأساسية هي تمكين الأسرى من الاتصال الهاتفي، الذي تكفله معاهدة جنيف الرابعة. علماً بأن الاحتلال لا يعترف بالأسرى على أنهم أسرى حرب، أو أسرى عدو، بل تعتبرهم "ملفات أمنية" وهي تفرض هذا التعامل على الطرف الفلسطيني اليوم. والتعبير الصحيح الذي يجب أن يكون في التعامل مع الحركة الأسيرة وأبنائها، هي أنهم أسرى تحرر وطني، عملوا في نطاق نضال شعبهم للتحرر من الاحتلال ضمن منظمة التحرير. وهم آمنوا بواجبهم الوطني بالتحرر من الاحتلال ومقاومته.

وفي مسألة النائب السابق غطاس، نجد أن الرجل رفع عملياً من الاهتمام بملف الأسرى الفلسطينيين الذين تحولوا اليوم، كما نرى إلى ملفات أمنية فردية، بالرغم من وجود سلطة لها مكانة دولية يفترض أن تمثلهم. وما حدث مع النائب باسل غطاس، هو أنه لم يتمكن من الوقوف عاجزاً أمام حالة أسير فلسطيني، لا يستطيع الاتصال بوالدته وهي على فراش الموت.

* ما هو الشرط الأساسي برأيك لنجاح هذا الإضراب؟ وهل ستكون له تداعيات فلسطينية عامة؟
- كي ينجح الإضراب يجب أن تكون المشاركة كبيرة، وحسب معلومات ستكون هناك مشاركة كبيرة في هذا الإضراب بالرغم من الانقسام الفلسطيني. فإن العدد المفترض مشاركته في الإضراب، هو 5000 أسير هو كافٍ لإنجاحه، مع ذلك هناك محاولات من الاحتلال للالتفاف على هذ الإضراب وإفشاله. وسيشكل هذا الإضراب فرصة لتوحيد الصف الفلسطيني بدءاً من توحيد الموقف داخل السجن والمعتقلات، والترفع عن الحسابات الفئوية أو الانقسام الحاصل، وهناك مؤشرات لأن يشمل الإضراب الأسرى من كافة الحركات والفصائل وبأعداد كبيرة. وستكون هذه رسالة مهمة للشارع الفلسطيني وللحركات والفصائل الفلسطينية ككل، بأن الانقسام يقتل الشعب الفلسطيني ولا بد من وقفه. هذا الإضراب فرصة أمام الحركة الأسيرة لاستعادة تأثيرها على المشهد الفلسطيني كله.

إضافة إلى ذلك، فإن الإضراب، وخاصة بالنظر إلى أن من دعا إليه هو حركة فتح في السجون، سيضع السلطة الفلسطينية في حالة حرج كبيرة، سيفرض عليها أن تتخذ موقفاً فاعلا ومتفاعلا مع الإضراب، ولا يمكنها أن تقف إزاءه موقف المتفرج أو مكتوفة الأيدي. وبرأيي سيكون هناك تحرك على مستوى السلطة، وبالتالي سيتحرك الشارع الفلسطيني، وربما سيؤدي هذا إلى هبّة جديدة، خاصة أن موضوع الأسرى منذ فترة متروك، لكنه ظل موضوعاً مؤلماً لكل فلسطيني في كل مكان.

دلالات
المساهمون