غيلان العراق

26 اغسطس 2015
+ الخط -
ما إن أعلن حيدر العبادي، فجأة في 9/8/2015، بعض القرارات الإدارية والتنظيمية، حتى طار نوري المالكي فوراً إلى طهران، للاستنجاد بحكومتها، وتوسل عطفها وحمايتها. ومن دون أي خجل "فَقَعَنا" خطبة، في 15/8/2015، قال فيها إن هناك هجوماً غير مسبوق على السياسيين العراقيين، وعلى رجال الدين، لتشويه صورهم (كأن صورهم آيات فنية). وتساءل بتعجب وخبث: "من أين أتت الطائفية إلى العراق، ومن أين يأتي الفساد". ويمكننا أن نجيبه بيقين ثابت أنه هو، وحزب الدعوة، مصدر هذا الفساد العميم الذي يلف العراق ومؤسساته، وأنه بالتحديد الأصل الأصيل للداء الذي يفتك بالعراق، من البصرة إلى القائم. ولا ريب في أن المالكي هو الذي جعل الناس، جرّاء طائفيته وفساده وتعصبه وأحقاده وجهالته، تتمنى "مائة مرة داعشاً ولا مرة حزب الدعوة". وجواد المالكي (هكذا كان اسمه في دمشق) هو المسؤول المباشر عن موت 1700 جندي عراقي في مذبحة سبايكر، وعن سقوط الموصل وجوارها؛ هذا السقوط المهين والمذل الذي أدى إلى فرط "الجيش العراقي"، وإلى استيلاء داعش على ثلث الأراضي العراقية، وإلى إعدام مئات المواطنين، وتهجير مئات الآلاف، وتدمير متاحف وآثارات لا تُقدر بثمن. وفي رقبة المالكي مأساة المسيحيين والإيزيديين، بعدما فضحه داعش، وأسقط حكومته، وبرهن أن "الجيش العراقي" مجرد ميليشيا طائفية.
نوري المالكي، معلم المدرسة الذي كان أقصى طموحه أن يصبح مديراً للتربية في المحافظة التي ينتمي إليها، ذُهل وطاش، حين وجد السلطة تهبط عليه، وعلى جماعته، بفضل الأميركيين والإيرانيين. ومنذ ذلك الحين، راح يبني مليشيا طائفية لا جيشاً. وتبين خَوَر هذه المليشيا، بوضوح، في الموصل وبقية البلاد. ثم "ابتدع" مجموعات "الحشد الشعبي"، وسلّم قيادتها إلى ممثوله في التعصب الطائفي، هادي العامري. وهذه مليشيا جديدة من رعاع المدن وأوباش الأرياف تنهب ولا تقاتل، بل تقتل، وهي تذكِّرنا بـِ "لواء الذئب" الذي فتك بالفلسطينيين وشرّدهم. والعجيب أن مجموع الموازنات العراقية بين 2003 و 2014 بلغ 800 مليار دولار، وهذه المبالغ الفلكية أُهدرت كلها، ولم يظهر أي أثر لها في الإعمار ومكافحة الفقر والبنية التحتية. باختصار، نهبها المالكي وأعوانه، وبلغت المنهوبات خلال الثماني سنوات الأخيرة فقط 360 مليار دولار. وبفضل المالكي، وقبله ابراهيم الجعفري وحزب الدعوة بأجنحته الفاشية، احتل العراق المرتبة 170 من بين 175 دولة على قائمة الفساد، وصار العراقي اللامع هو السمسار أو الوكيل الذي يشرب الفرات والنيل.
بنى المالكي وحزبه "دولة" فاشلة، يحميها اللصوص والعملاء والقَتَلَة، وثابرت المجموعات السياسية على خدمة الاحتلال الأميركي من جهة، وتوظيف المذهبية في خدمة إيران في الوقت نفسه. وتغولت "منظمة بدر" (هادي العامري) و"عصائب أهل الحق" (قيس الخزعلي) و"المجلس الأعلى الاسلامي" (عمار الحكيم) و"التيار الصدري" (مقتدى الصدر) على المجتمع والأفراد، على طريقة الأرزقية والسرسرية، ولم يوفروا زمانهم إلا للنهب، كلما سنحت الفرصة لهم، فرأيناهم فرحين مثل العجول الصغار إذا حُلّ رباطها، وأُطلقت على ضروع أمهاتها؛ وهذه العجول تحولت غيلاناً ولصوصاً.
بغداد التي كانت تزهو على المدائن بأماسيها الليلية على ضفتي دجلة بين النخيل والمياه وأدخنة "المسقوف" وأصوات الشعراء، بات سكانها يعيشون في الزحام، ويتزاحمون على المكان المزدحم، ويتقاتلون على كل شيء، وصار الذباب والبرغش ومياه المجاري المكشوفة والروائح الكريهة والسخام من سمات المدن العراقية في عهد نوري المالكي، علاوة على الكآبة والتجهم، بدلاً من الأمل والفرح. كان الدهر رحيماً بأحمد الصافي النجفي، حين عاد إلى العراق من الشام، وقد كفَّ بصره، فقال:
يا عودة للدار ما أقساها/ أسمع بغداد ولا أراها