غزّاويّات: الميّة لا تروي العطشان

23 اغسطس 2014
القصف على غزّة (محمود حمس/Getty)
+ الخط -

لا تزال أزمة المياه مستمرّة في غزّة بعد تدمير آبار المياه أثناء العدوان الإسرائيلي. وبيتي مثل كلّ البيوت الغزيّة عانى أشدّ المعاناة من شحّ المياه، ورحت أشتريها من سيّارات تحمل صهاريج ضخمة وتنقل المياه من شركات تحلية خاصّة. وطبعا أدفع ثمنا مضاعفا عن فاتورة المياه الشهرية العادية.

فكرتُ كثيرا بطرق مختلفة ومبتكرة لترشيد استهلاك المياه في البيت، بدءًا من إعادة استخدامها. فمثلا، كنت أطلب من أولادي أن يضعوا دلوا صغيرا تحت أيديهم عند غسلها أو عند الوضوء. وأخذت أستخدم الماء الذي يتم تجميعه في الدلو لتنظيف الأرضيات والحمام. لكنّ ذلك وغيره من الطرق لم تساعدني على تقليل استهلاك المياه التي تتناقص بسرعة، خصوصا مع اشتداد حرارة الجوّ. وهذا رغم تخصيصي أيضا كمية معيّنة لكلّ فرد من أولادي الأربعة، للشرب والحمام اليومي.

كان أولادي يبدون تذمّرهم حين أقف لهم بالمرصاد قرب باب الحمام وأردّد العبارات الإرشادية، كتلك التي نسمعها في وسائل الاعلام: لا تفتح صنبور المياه إلا لينزل خيطا رفيعا من الماء، أو عندما أقول لأحدهم، وهو في الحمام أيضا: شايفاك وانتَ بتاخد من الميّة المخصصة لحمام أخوك، ويردّ ابني الأكبر ضاحكا: يعني يا ماما انتي لابسة طاقية الإخفاء؟

 حتّى خطرت لي فكرة... وهي استخدام أدوات طعام بلاستيكية وورقية، من تلك التي تُستخدَم لمرّة واحدة. وبحسبة بسيطة على الورقة والقلم اكتشفتُ أنّ سعر هذه الأدوات، من أطباق وملاعق وأكواب، سيكون أرخص كثيرا من شراء صهريج مياه سعته ألف لتر.

وهكذا اشتريتُ من السوبرماركت القريب كمية منها وبدأتُ أستخدمها في البيت وأرميها في القمامة سريعا. ولاحظت انخفاضا في معدّل استخدام المياه فعلا. خصوصا مع استخدامنا أوراقا منعشة مبللة تُغني عن استخدام الماء. ورحنا نستخدمها لتنظيف أيدينا ومسح أفواهنا بعد تناول الطعام.

تسرّب الخبر إلى جارتي الثرية البخيلة، زوجة المقاول الشهير، فبدأت تشيع عنيّ أنّني "عاملة حالي فافي"، وأنّني "على راسي ريشة"، وأنّني ورثت إرثا ضخما جعلني أحتار كيف أنفق الأموال. وكان ابنها الصغير قد صادف ابني في السوبرماركت وهو يشتري كمية جديدة من  الأكواب ونقل الخبر إلى أمّه.

وانتشر الخبر في الحيّ كالنار في الهشيم، خصوصا شائعة أنّني ورثت مبلغا من المال من قريب لي استشهد في الحرب. وبدأ الجيران يتودّدون لأولادي ويقترحون مشاريع مستقبلية عليهم. ولا يخفون حسدهم لنا على تلك الأدوات البلاستيكية والورقية التي يرونها تدخل البيت على شكل مغلّفات وتخرج منه في أكياس القمامة.

اكتفيتُ بالصمت على هذه المواقف لأنّني كنتُ سعيدة بتوفير كمية من الماء لم أتوقّعها ولم أحتَج سوى مرّتين لشراء المياه أثناء العدوان، ووفّرت ساعات انتظار دوري قبل وصول الصهريج إلى البيت. ولأنّني وفّرت فعلا مبلغا جيدا من المال، تذكّرتُ قول جدّي إنّنا "في وقت الحرب قد نملك المال ولا نجد ما نشتريه".

صباح أمس، حين كنتُ أقف على الشرفة رأيتُ جاري المقاول الثري يفتح حقيبة سيارته ويتناول منها كميّة من المغلّفات ويعطيها لابنه كي يدخلها بسرعة إلى الفيلا الخاصّة بهم.

 كنتُ أعرف تلك المغلفات جيّدا، فهي لأدوات طعام بلاستيكية وورقية تُستخدَم لمرّة واحدة.
المساهمون