غزّاويّات: الفرن وذكريات الطفولة

16 اغسطس 2014
"عند الفرّان" (AFP/Getty)
+ الخط -
خلال أيّام العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، عانينا من مشكلة نفاد الغاز الذي نستعمله للطهو، بدءًا من أيّام رمضان الأخيرة. لذا بدأت أستخدم "البابور"، وتوقّفت عن طهو الأكلات التي تحتاج وقتاً طويلاً على النار.. إلى أن أعلنت هدنة إنسانية ساعات، فجاءني ابني مهلّلاً: "ماما، رح تعملي لنا اليوم صينية الدجاج بالخضر ومحمّرة بالفرن كمان؟".

سألته بحسرة: كيف يا "معود"؟ وما عنّا غاز ولا كهربا؟

ردّ مفسراً، إنّ صاحب المخبز القريب قد أعاد افتتاحه بناء على إلحاح الجيران، وسوف يشغله بالحطب، حيث لا بنزين ولا "سولار"، وقد صنع له سقفاً مرتفعاً كي لا يتصاعد الدخان إلى السماء، فتقصفه الطائرات معتقدة أنّه منصّة إطلاق الصواريخ.

تلك البشارة التي حملها ابني، أعادت إليّ ذكريات الطفولة، حين كانت ترسلني جدّتي، وأنا صغيرة، مع بنات الجيران، إلى فرن المخيّم لكي نخبز خبزها الذي تضيف إليه زيت الزيتون، في الفرن، أو "عند الفرّان"، كما كنا نسمّي المشوار. وكان للمشوار طقوس معيّنة، وأحاديث لا تخلو من نميمة طيّبة. ولا تنقطع الأحاديث حتّى يصرخ صاحب الفرن، ذو الوجه المتغضّن، الذي لا يتوقّف عن شرب الماء، ولا يصوم رمضان: "اسكتن..". 

وتصمت النساء والفتيات قليلاً ثم يعاودنَ الحديث، ويمنحنَه الأجرة، ورغيف خبز من "عجنة" كلَ واحدة. ولا أنسى كيف كافأتني جدَتي يوما على ذكائي وقالت لي: والله خايفة عليكي تموتي يا مقصوفة الرقبة من كتر شطارتك.

كان الفرن مزدحماً يومها والخبّاز يرمي الخبز هنا وهناك، حتّى اختلط خبز هذه بخبز تلك. وكانت جدّتي تتباهى بخبزها المخلوط بزيت الزيتون. لكنّني استطعت أن أجمع خبز جدّتي وأن أضعه على  قطعة مستطيلة من الخشب يُطلق عليها اسم "فرش العجين".

جمعته رغيفاً رغيفاً حين تذكّرت أنّ جدّتي كانت ترصّ خبزها على قطعة من الخيش، تترك آثار خيوطها على خلفية كل رغيف. وهكذا، كنتُ أفحص الأرغفة واحداً تلو الآخر، والرغيف الذي أجد عليه آثار خيوط الخيش أجذبه بيدي الصغيرة بسرعة من ناحية النار نحو "فرش العجين" وأقوم بصفّ الأرغفة وعدّها، وأساعد بنت الجيران على وضع قطعة قماش ألّفها مستديرة فوق رأسها تُسمّى "الحواية". ثم تضع الفرش فوقها حتى لا تتسرّب سخونة الخبز إلى رأسها. وكنتُ طبعاً حين ألعب أقلّد هذه البنت وأحمل الفرش فارغاً فوق رأسي وأتمشّى به في باحة بيت جدّتي التي تضحك وتقول لي: "ملحّقة لتكبري للهمّ".

بعيداً عن الذكريات، فرحت كثيراً وهللّت، فقال لي ابني: جهّزي صينيتك يا "حلوة "ولفّيها بورق الألمنيوم، حتّى آخذها الى الفرن". وحمدتُ الله أنّني أشتريت دجاجتين من محل بيع الدجاج القريب، الذي قاربت دجاجاته على النفوق بسبب عدم توافر العلف وانقطاع الكهرباء. وكم رجوتُ ابني أن يسمح لي بالذهاب إلى الفرن بدلاً منه، لكنّه صاح بي: والبرستيج والإتيكيت يا حلوة؟

ضحكت ومثّلت دور الملتاعة وأنا أصرخ: خدوني عليه يا عالم.. لكن رفض ابني كان قاطعاً، وهكذا ضاعت فرصتي لاستعادة الذكريات والتقاط بعض الأخبار وقصص النميمة من الجارات. وهي الفرصة التي تتمتّع بها جاراتي حتّى الآن وهنّ يحملنَ "فرش العجين" ويسرعنَ إلى جلسات نميمة لا تتكرّر إلا في وقت انقطاع الكهرباء والغاز في غزّة.
المساهمون